هدية من نوع آخر
ليلى غليون
من منا لا يخطئ، ومن منا لا يزيغ عن سنن الحق، فنحن من صنف البشر ولسنا من صنف الملائكة، نحن من بني آدم الذين قال الله تعالى فيهم: (ربنا لا تؤاخذنا أن نسينا أو أخطأنا). نحن من بني آدم الذي قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، فالخطأ صفة ملازمة للنفس البشرية جبلت عليها، وأن صفات الكمال والجلال لله وحده لا شريك له، فلا نطمع أن نجد إنسانًا بلا زلات أو هفوات، ولا نحلم أن نرى إنسانًا خلا من العيوب، لأننا ببساطة شديدة لن نعثر عليه أبدًا حتى ولو جبنا مشارق الأرض ومغاربها، وصدق الشاعر لما قال:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى بالمرء نبلًا أن تعد معايبه
ولما كنا جميعًا معرضين للوقوع في الخطأ والزلل، لأن النفس الإنسانية كما وصفها قول الله تعالى: (إنَّ النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي). ولمّا كان الكثير منا قد لا يهتدي الى خطئه، وقد لا يبصره بنفسه، فقد كان حقًا على أخيه أن ينصح له من باب الأخوة في الدين، والحب في الله، وإبقاء للصلات الوطيدة التي تترجم صدق المشاعر الأخوية والمحبة.
والمسلم الحق مرآة صافية وصادقة لأخيه، لا ينافق ولا يداهن ولا يرائي ولا يخفي شيئًا، بل يعكس الأمور على حقيقتها من غير تزييف ولا تشويه ولا تملق، تمامًا كما المرآة التي نطيل الوقوف أمامها للاطمئنان على سلامة مظهرنا الخارجي، وأن كل شيء على ما يرام، لأن المرآة لا تكذب ولا تداهن، فإن عكست لنا هذه المرآة ثمة خلل في مظهرنا سارعنا إلى إصلاحه على الفور حتى نظهر بأجمل وأشيك صورة، فلا نعتب على المرآة ولا نغضب منها ولا نحمل عليها لأنها أظهرت لنا عيوبنا الخارجية، بل نتقبل انتقادها بكل رحابة صدر بدليل استجابتنا الفورية في إصلاح تلك العيوب الظاهرة، ولكن ومع بالغ الأسف، فان ما تعكسه مرآة الأخ لأخيه وما يقدمه له من نصح، في كثير من الأحيان، أصبحت عاملًا من عوامل هدم العلاقات بين الناس، وسببًا من أسباب الفرقة بينهم.
وهذا الأمر باعتقادي يرجع لسببين، أولهما أن هناك من لا يتقبل النصيحة ويعتبرها تدخلًا في شؤونه الخاصة، أو شعوره بالإساءة والحرج جراء هذه النصيحة، أو استخفافه بمن يقدمها له، لينظر إليه بعين الاستهزاء، وثانيهما أن الذي يقدم النصيحة قد لا يتقن فن هذا التقديم، وبدل أن تكون نصيحة موجهة تكون فضيحة موجعة، وبدل أن تكون للتنوير تكون للتشهير، وعلى رأي المثل (أجا تيكحلها عماها).
نعم إنَّ النصيحة فن قل من يتقنه، وقد أرسى المربي الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم قواعد هذا الفن، فقد كان من أدبه صلى الله عليه وسلم في إنكار المنكر، أنه إذا بلغه عن أحد مما ينكر فعله، لم يذكر اسمه ولم يقل له لم فعلت كذا وكذا، بل يقول صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام يفعلون كذا …) وهذا من أسمى وأرقى وأنجح أساليب النصح، وقد قيل لبعض العلماء: أتحب من يخبرك بعيوبك؟ فقال: إن نصحني بيني وبينه فنعم، وإن مرّعني بين الملأ فلا.
فما بالنا نرى موازين النصيحة قد انقلبت رأسًا على عقب لنجدها تتأرجح بين التشهير والتملق، فلا يحلو للبعض إلا أن يشهروا بعيوب الغير أمام الناس بحجة نصحهم وإرشادهم وحب الخير لهم، فيظهرون أسرارهم ويهتكون حرماتهم ويفضحون أمورهم وينتقصون من شأنهم، مما يثير نوازع الشر والكراهية والفتنة في المجتمع ويساهم في فرط نسيج العلاقات بين الأفراد، وقد قال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أمام الناس: يا أمير المؤمنين، إنك أخطأت في كذا وكذا وأنصحك بكذا وكذا. فقال له علي: إذا نصحتني فانصحني بيني وبينك، فإني لا آمن عليكم ولا على نفسي حين تنصحني علنًا بين الناس.
فالنفس الإنسانية بما جبلت عليه من فطرة تأبى أن يطلع أحد على عيوبها، فإذا كان لا بد من النصيحة فلتكن سرًا وبأسلوب جذاب ينم عن ذوق صاحبه وأدبه وسلامة نيته في حبه لأخيه الخير كما يحبه لنفسه، لأن النصح في العلن انتقاص وفضيحة وهذا ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله: من وعظ أخاه سرًا فقد نصحه وزانه ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه.
وأمّا الذين لا يتقبلون النصيحة حتى ولو كانت مغلفة بالسر والذوق والأدب ويعتبرونها منقصة بحقهم واستهانة بهم، فترى الواحد منهم كالقنبلة الموقوتة تنفجر بوجه من أراد أن يقدم له نصحًا أو إرشادًا بنية الإصلاح وتقويم الاعوجاج، فإلى هؤلاء نقول: إن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول ويدعو: (رحم الله امرءًا أهدى إلي عيوبي) حيث كان يعتبر من يذكره بعيوب نفسه وكأنه أهدى له الهدايا، ومن منا لا يحب الهدايا خصوصًا إذا كانت قيمة، والنصيحة والتذكير بالعيوب بالنسبة لعمر رضي الله عنه هدية نفيسة ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها ولا تقدر بثمن لأن فيها الخير كله وهو إصلاح النفس واستقامتها، فهو لم يطالب بهذه الهدية فقط، بل كان يدعو بالرحمة لكل من يبادر ليهديه عيوب نفسه حتى يسارع هو بتقويم هذه النفس التي رأى عيوبها بعيني أخيه الذي دفعه حق الأخوة أن لا يجامله على الخطأ ولا يتملقه على الزلل بل ينصحه ويبين له سبل الخير.
فلم يرفض البعض تقبل النصيحة ولا يستمعون لداعي الخير وهم يدركون أن في ذلك الخير كله؟ ولم هذا التكبر والتعالي على النصيحة وفيها إصلاح للنفس أو دفع للأذى أو إحقاق للمعروف؟
إننا يجب ان نرفض كل صور النفاق الاجتماعي وكل أشكال التملق والظهور بوجهين، فالدين النصيحة كما أخبر بذلك حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.