معركة الوعي (171) في مناقشة كتاب يتسحاق رايتر “الحرب والسلام في العلاقات الدولية في الإسلام المعاصر- فتاوى في موضوع السلام مع إسرائيل” (9)
حامد اغبارية
يتحدث رايتر في كتابه عن فترة الحكم العثماني في سياق المهادنات والمعاهدات مع القوى الأوروبيّة المختلفة (ص36/37). ويعتبر أن العثمانيين قد تجاوزوا المماليك في الشذوذ عن القاعدة في النهج الإسلامي التقليدي، وأنهم تمادوْا كثيرا في إبراهم هذه المعاهدات من منظور الشريعة الإسلامية بمفهومها التقليدي، معتبرا أنه منذ القرن السابع عشر للميلاد فصاعدا كانت هذه معاهدات استسلام، لأنها – كما يقول- جاءت بعد هزيمة العثمانيين مرارا وتكرارا في ساحة المعركة، ولم يبق أمام العثمانيين سوى القبول بالإملاءات والمعايير القضائية التي وضعتها القوى الأوروبية. ثم يتساءل: هل كانت هذه المعاهدات قد حصلت على مصادقة من شيخ الإسلام الذي كان أحد الأركان الثلاثة للدولة، إضافة إلى السلطان والوزير الأعظم، حيث كانت هذه القرارات المتعلقة بشؤون الحرب والسلام تحتاج إلى مصادقته. ثم يعترف رايتر أنه لم يعثر على فتوى صريحة وواضحة أعدها شيخ الإسلام وصادق من خلالها على معاهدات السلام التي أبرمها السلاطين. ولكن من جهة أخرى علينا أن نفترض أن شيخ الإسلام كان على علم بمضمون هذه المعاهدات، وأنه قبل بها اضطرارا كونها تمثل التبرير الشرعي المعروف بالضرورة الآنية. ويقدم رايتر مثالا على هذه المعاهدات “اتفاقية حلف لافورييه” التي وقعها السلطان سليمان القانوني مع فرنسيس الأول ملك فرنسا عام 1535.
وبحسب رايتر فإن هذه الاتفاقيّة نصّت على منح الحق لأمراء نصرانيين بالانضمام للحلف واعترافا بعائلة الأمم من الدول النصرانيّة والمسلمة والاعتراف بكيان ديني آخر. وهذا الكلام يقتبسه رايتر من كتاب (النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية وأهميتها المعاصرة) للمؤرخ العراقي مجيد خدوري، الذي سار على طريق المستشرق برنارد لويس في النظرة الاستشراقية في تفسيرها لتعدد المواقف بين الحرب والسلام عند الدولة الإسلامية، باعتبار أن جنوح الدولة الإسلامية للسلام سببه الهزيمة أو الضعف وما شابه ذلك! لذلك ترى هؤلاء يحشرون هذه التعددية بين النظرية التقليدية للعلاقات الدولية في الإسلام (الحرب) وبين النظرية الحديثة المناظرة (السلام) أو باعتبارها ما سموْه أيضًا قضية الفجوة بين النظرية والتطبيق!
لكنّ ما أهمله رايتر وأخفاه، كما فعل مجيد خدوري في كتابه ذاك، هو أن علاقات الدولة الإسلامية لم تكن قائمة – ولا يمكن أن تكون قائمة- طوال الوقت على مبدئي الحرب والسلام. فالدولة (أي دولة) لا يمكنها أن تعيش على مدار تاريخها في ظروف حرب مستمرة، كما لا يمكنها أن تعيش في فوضى متواصلة، أو في حالة سلام دائم يتحملون خلاله ما يحيق بهم من ظلم وعدوان. ومن مراجعة تاريخية سريعة ستجد أن الحرب وحدها لم تكن هي أداة العلاقات الوحيدة مع الآخر في ظل القوة الإسلامية، بل كانت الدعوة هي أساس العلاقة، لأن غاية هذه العلاقة ليست إقصاء الآخر أو استبعاده أو القضاء عليه، وإنما الدعوة من أجل نشر الإسلام من جانب أمة الدعوة في مواجهة أمة الإجابة (الأمم الأخرى غير المسلمة). وبناء عليه أيضًا يمكن إزالة الضبابية التي أحاطت بمفهوم الجهاد – باعتباره مجرد حالة قتالية أساسًا، ذلك المفهوم المضلل الذي تحدث عن الإسلام إما سلامًا أو حربًا.، بينما الحقيقة أنه في حالتي الحرب والسلام فإن الجهاد هو إحدى وسائل إيصال الدعوة ونشرها في العالمين.
بكلمات أكثر وضوحا فإن الظروف التاريخية وحالة عناصر القوة يحددان متى تكون الحرب ومتى يكون السلام استثمارًا فاعلًا حتى تصبح الحركة الحضارية ملتزمة وواعية وقادرة على أن تحقق لكل ظرفٍ أهدافَه في ظل شروطه، وهي الحركة التي تجعل من الدعوة عملية تسندها عناصر القوة والإعداد لها، ومن الجهاد قيمة وآلية لتحقيق الهدف الأخير. ومن ثم، فهي تحدد أيضًا مفهوم القوة من حيث طبيعة مصادر القوة، ونمط توزيعها، وغاياتها وآثارها. وذلك على عكس نظرية القوة التي تعتمدها النظرة الغربية المادية الحداثية باعتبار المسألة صراعا متواصلا بين معسكرين يحركه رفض الآخر!
لذلك فإنك ترى خدوري هذا، الذي جعله رايتر مصدرا له لا يقول إلا حقا!! يربط التطور في التنظير الفقهي بالتطور في مراحل التاريخ الإسلامي، ويشرح كيفية التحول من نظرية دار الحرب ودار السلم، باعتبارها النظرية التقليديةـ مقارنة مع النظرية الحديثة، وذلك على ضوء ما يسميه التطور المرحلي من دولة المدينة إلى الإمبراطورية، ثم إلى الدولة العالمية الشاملة، إلى عصر اللامركزية، إلى عصر تقسيم الدولة إلى وحدات سياسية، ثم نشوء الدول القومية. ولقد أرجع خدوري التغير مما سماه النظرية التقليدية إلى النظرية الحديثة، إلى عدم الانتصار الكامل للإسلام، فضلًا عن بداية اللامركزية ثم التعددية السياسية عقب مرحلة الدولة الإسلامية العالمية. ولكنه لم ير في التغيّر الفقهي المتعلق بموقف الدولة الإسلامية من العلاقات الدولية تأويلًا أو مخرجًا فقهيًا، حيث أنه لم ير أن “النظرية التقليدية” موجودة أصلًا في القرآن أو السنة؛ فهو يزعم: “أن النظرية التقليدية للقانون الدولي الإسلامي لا تقوم على نصوص صريحة من القرآن الكريم ولا على الأحاديث النبوية الشريفة، ولكن جوهر القوانين الأساسية التي يتضمنها القانون الدولي الإسلامي مستمد من هذين المصدرين”، ويضيف أن هذا القانون جاء نتيجة لاجتهادات فقهاء المسلمين، وتفكيرهم الفلسفي…”. وبين هذا وبين حقيقة سلوك الدولة الإسلامية في علاقاتها الدولية بون شاسع لا يدرك مداه لا خدوري ولا رايتر ولا برنارد لويس ولا غيرهم من أصحاب نظرية الحداثة في العلاقات الدولية المعاصرة (انظر: نادية مصطفى- العلاقات الدولية في الإسلام: نحو تأصيل من منظور فقه حضاري).
وعودة إلى “حلف لافورييه” الذي يشير رايتر إلى أنه من المعاهدات التي أجبرت الدولة العثمانية على الرضوخ لشروط القوى الأوروبية.
والقصّة كما يوردها رايتر نقلا عن خدوري ليست هي الحقيقة، بل هي تزوير للحقيقة. ولعل خطأه الكبير أنه اختار السلطان سليمان القانوني تحديدا كمثال على رضوخ المسلمين لشروط القوى الغربية، لأن سليمان القانوني رحمه الله والمعروف بلقب “سلطان البرّين والبحرين” قد وصل بفتوحاته المباركة حدود فيينا، والأهم من ذلك أنه حمى القدس المباركة من الوقوع في براثن الصليبية. لذلك يمكنك أن تدرك هدف رايتر من هذه الخزعبلة التي أراد منها توجيه إهانة، لا تسجيل حقيقة تاريخية كما يزعم.
فما حقيقة حلف لافورييه هذا؟
انطلاقا من نظرية الإسلام في تحقيق أهداف الدعوة ونشر الإسلام ورفع الظلم سار سليمان القانوني على درب أسلافه، ليس من السلاطين العثمانيين وحسب، ولا السلاجقة ولا العباسيين، بل من عصر الرسول والعهد الراشدي. ولم يكن الجهاد والحرب ولا المعاهدات إلا من وسائل تحقيق هذا الهدف العظيم.
في حصار فيينا عام 1529 كانت فرنسا قد تحالفت سرا مع الدول المسيحية في أوروبا ضد العثمانيين، رغم تحالفهم مع العثمانيين، وهو التحالف الذي أخفته فرنسا عن الدول المسيحية، وذلك حماية لمصالحهم. وبلغة أخرى: لعبت فرنسا على الحبلين. لكن السلطان وقيادات دولته كانوا على علم بذلك، لكنهم أدركوا تماما أن مصلحة فرنسا الأولى تكمن في علاقتهم بالدولة العثمانية أكثر مما هي مع الدول الأوروبية التي كانت تعتبر فرنسا عنصرا سلبيا يهدد سلطتها، مثل البندقية والبابوية في روما والمجر وإسبانيا وغيرها.
وكانت مفاوضات التحالف بين العثمانيين وفرنسا قد بدأت سنة 1532 ميلادية لتصل ذروتها عام 1535، حين وصل السفير الفرنسي “لافورييه” اسطنبول وطلب من السلطان المشاركة بجميع قواته البرية والبحرية في الهجوم على قوات “آل هابسبورغ” في إسبانيا. كما طلب من السلطان منحة مالية عبارة عن مليون قطعة ذهبية لتجهيز قواته. ولما كان السلطان بذكائه المعروف ونظرته بعيدة المدى، مدركا لألاعيب الفرنسيين فقد استفادت الدولة العثمانية في هذه الاتفاقية حيث تمكنت الخروج بسهولة في حملة عسكرية ضد المجر عام 1542 ميلادية. ومن خلال تلك الاتفاقية/ المعاهدة بين فرنسا والدولة العثمانية مُنح الفرنسيون بعض الامتيازات التجارية في الموانئ والأسواق العثمانية، علما أن هذه الامتيازات ظلت في نهاية المطاف حبرا على ورق، ولم تنفذ عمليا. وهكذا نجح السلطان القانوني في تحييد فرنسا من دعمها للقوى الأوروبية الأخرى، وقد ملك كل المعلومات المطلوبة التي تجعل عنق الملك الفرنسي في قبضته. هذه هي الحقيقة، وليس كما أوردها رايتر في كتابه، والتي يظهر فيها العثمانيين في خانة المهزوم المغلوب على أمره. علما أن “التحالف” يكون عادة بين قوى متساوية ولهما مصلحة مشتركة ضد عدو مشترك. ونذكر هنا أنه في ذات الوقت الذي عقدت فيه المعاهدة كان الأسطول العثماني بقيادة البحار الشهير خير الدين بربروس يجوب البحر المتوسط مسيطرا مهيمنا، طاردا للأوروبيين منه كافة.
أما قول رايتر إنه يفترض أن شيخ الإسلام كان على علم بمضمون هذه المعاهدات، فإن تسجيل التاريخ لا يقوم على الفرضيات، وإنما على الحقائق. ولما أنه يقول إنه لم يجد فتاوى صريحة بهذا الخصوص، فقد كان من واجبه العلمي أن يتوقف عند هذا، ولا يخوض في الافتراضات. هذا مع علمنا أن السلطان القانوني، مثل سائر سلاطين العثمانيين، لم يكن يقدم على خطوة ذات شأن دون فتوى أو استشارة من شيخ الإسلام. وقد اشتُهر عنه أنه احتفظ بكل الفتاوى وأوصى بأن تدفن معه في قبره حتى يلقى الله تعالى بها. وهذه مسائل لا يُدرك رايتر ولا غيره من مستشرقي آخر الزمان عمق معانيها. (يتبع).