الإنذار
ليلى غليون
ويحك يا عمار، خمسون عامًا لم تسجد لله سجدة واحدة، خمسون عامًا صداقة حميمة مع الدنيا وارتماء في أحضانها واطمئنان إليها حتى خيل لك أنها لم تخلق إلا من أجلك، غصت في أعماقها تبحث عن كل لذيذ، ركبت كل مراكبها وسلكت كل دروبها حتى عافتك وخذلتك وداست عليك بنعال متاعها وغرورها وقذفت بك في أوعر سبلها لتضحك ملأ فمها ساخرة منك قائلة: هذا جزاء المتهافت علي المطمئن لي، هذا حصاد من وقع في شباكي وأغرته زخارفي، حصاده هشيم وجمعه هباء.
ويحك يا عمار أين كنت يوم قيل لك: “المال والبنون زينة الحياة الدنيا”. أين كنت يوم قيل لك: “لا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور”. أين كنت يوم قيل لك: “اتق الله ولا تأخذك العزة بالإثم”. لكم ذكروك فسخرت، ولكم سخرت فظلمت، ولكم ظلمت فأوجعت وقهرت، وها هي الدائرة تدور عليك الآن، وتصفعك صفعة شديدة شلت فيك الحياة، وها هي الدنيا تسحب بساطها المخملي من تحت قدميك لتسقط كالمغشي عليه تستنجد وتصرخ كالغريق ولا مجيب، أين ذهب الأصدقاء والمقربون؟ أين ذهب الأحباب والخلان؟ لقد انفضوا من حولك وتركوك وحيدًا تتلوى وتواجه مصيرًا شرابه علقم.
ما بالهم لم يبق منهم أحد؟ لقد تخلوا عنك ونبذوك كما ينبذ الجسد الثوب البالي، لقد كانوا بالأمس القريب أكثر من الهم على القلب، كانوا كالظل لا يفارقونك أبدًا، يتهافتون عليك كتهافت الفراش على النار، ولكنهم اليوم يرحلون عنك برحيل أموالك، وضاقت بك نفوسهم بنفاد ملايينك عندما أعلنت شركة الأسهم التي ادخرت فيها كل أموالك عن إفلاسها وإغلاقها، لقد ضاع كل شيء وخسرت كل شيء، خسرت الزوجة والبنات، خسرت الأصدقاء والأصحاب، خسرت الأموال والعقارات، وقبل كل شيء خسرت دينك وخسرت نفسك.
وصدق من قال:
رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال ومن لا عنده مال فالناس عنه قد مالوا
رأيت الناس قد ذهبوا إلى من عنده ذهب ومن لا عنده ذهب فالناس عنه قد ذهبوا
رأيت الناس منفضة إلى من عنده فضة ومن لا عنده فضة فالناس عنه منفضة
أردت ربحًا سريعًا وقلت هي صفقة العمر فكانت صفعة العمر القاسمة التي أوردتك موارد الهلاك والبوار والخسران لتعود بعدها لا تملك حتى البيت الذي يأويك. خسارة فإفلاس فعجز، وأمامك خياران لا ثالث لهما، إمّا السجن وإما سداد العجز، وعملية حسابية بسيطة تشير إلى أن كل ما تملكه من بيت وسيارة وأملاك تجارية لا تساوي نصف العجز، فالسجن إذن هو المصير المنتظر. أخذ يقلب ورقة الإنذار بين يديه المرتجفتين، وبدت خفقات قلبه أكثر اضطرابًا وأنفاسه مسموعة وأشد سرعة، وقد بدت ملامح السجون تلقي بظلالها حول قلبه ليصيح بأعلى صوته: لا، لا أريد الذهاب إلى السجن ولا أريد بيع البيت ولا السيارة، وبدأ صراخه يتعالى بصورة هستيرية: ويحي ماذا فعلت بنفسي ماذا فعلت بنفسي؟ لقد ذهبت سنوات عمري عبثًا وضاعت سدى، ضاعت كل أموالي في أكبر عملية مقامرة في شركة الأسهم (البورصة) خسرت زوجتي وبناتي الثلاث وتركنني بعد أن فقدن الأمان بالعيش معي، وكيف لزوجة وبناتها أن يجدن الأمان في بيت كان وكرًا للعابثين أمثالي؟! كيف لهن النوم في بيت كانت لياليه الحمراء تفوح منها روائح الخمر التي كانت تدور بالرؤوس حتى الصباح؟! ليال تترنح فيها الأجساد المخبولة والرؤوس “المسطولة” وتتعالى فيها القهقهات الهستيرية؟ لقد فررن بكرامتهن وانسانيتهن وأبين إلا العيش الكريم ولو كان قليلًا وبسيطًا.
ارتعدت فرائصه وشهق شهقة كادت تخنق أنفاسه وهو يتذكر زوجته وبناته الثلاث وعصير الألم الذي كان يصبه لهن ليل نهار، ضرب رأسه بكلتا يديه عندما قفزت في ذهنه تلك الحادثة يوم أن تقدمت منه ابنته وكان في بداية سكره وقالت له: هذا حرام يا أبي ألا تتق الله فينا وفي نفسك. لم يمهلها لتكمل كلامها، بل طبع على وجهها لكمة طرحتها أرضًا أثبتت أن عقله غائب وضميره في إجازة، انتفض مجددًا وعاد من شروده عندما سقطت من يده ورقة الإنذار، وتذكر السجن الذي ينتظره، التقطها وقرأها مرات ومرات وهو لا يصدق أن ما بناه في سنواته الخمسين سيهدم بلحظة وراء القضبان.
ولاحت منه التفاتة عشوائية على مرآة كانت معلقة على حائط في بيته، تقدم منها، نظر إلى نفسه وكأنه يراها لأول مرة، تحسس شعره الذي غزاه المشيب، تمعن به مدة طويلة وكأنه يكتشف شيئًا جديدًا. عجبًا إن رأسه قد اشتعل شيبًا منذ زمن ولكنه لم يعره اهتمامًا ولم يأبه به ولم يتكدر أو يندهش، فما الذي حدث؟ وهل أصبح المشيب يعني له شيئًا؟
لقد رأى في المشيب ورقة إنذار أخرى، إنذار للغافلين والعابثين الغارقين في مستنقعات الدنيا، رأى في المشيب إنذارًا ونذيرًا يقول له: لقد تاجرت بأسهم هذه الدنيا الخاسرة وأصبحت مفلسًا من كل خير، لقد نسيت التجارة الرابحة، ارتعدت فرائصه مرة أخرى وبصورة أشد وأقوى وقد تجلت أمامه نهايتان مريرتان، اهتز كيانه وهو يرى عمره مضى كحلم عابر، وحصاده ليس إلا هشيمًا تذروه الرياح، أخذت تتجاذبه الهواجس من كل جانب وتصيح الأفكار في كل خلجة من خلجاته هل من عودة، ،هل من فرصة لتصحيح المسار، شعر بضعف شديد يجتاح كل زاوية من زوايا جسده، خانته قواه ولم تعد رجلاه تقوى على حمله، شعر بكل شيء يدور حوله حتى ورقة الإنذار رآها تدور راقصة مستهزئة به، اختلطت المناظر أمام ناظريه، تناحرت الأفكار في رأسه، ما هذا؟ رعشات في ضلوعه وهبوط في دقات قلبه سقط أرضًا بلا حراك. بلا تنفس، بلا نبضات. ليسدل الستار بنهاية أوجزها تقرير الطبيب في أحد المستشفيات: وفاة بالسكتة القلبية.