معركة الوعي (170): في مناقشة كتاب يتسحاق رايتر “الحرب والسلام في العلاقات الدولية في الإسلام المعاصر- فتاوى في موضوع السلام مع إسرائيل” (8)
حامد اغبارية
يستعرض رايتر عددا من المحطات التاريخية التي يقول إن المسلمين قد عقدوا فيها معاهدات ومهادنات مع الأعداء، سواء في فترة المماليك والفترة العثمانية. ومن هذه المعاهدات التي يقول إنها “فاقت كل المعايير” تلك المعاهدة بين السلطان المملوكي المنصور سيف الدين قلاوون وبين الملك ألفونسو الثالث؛ ملك أراغون (في الأندلس)…”.
ويقول: تضمنت المعاهدة بندا يتحدث عن أنه تصبح المملكتان مملكة واحدة وكيانا واحدا، ولا تـُلغى بموت أحد الفريقين (في الأصل: المتعاقدين) أو استبدال القائد”. ووجهُ الاستهجان عند رايتر أن اعتبار المملكتين كيانا واحدا يتناقض مع المبادئ الأساسية لأحكام الجهاد. ورغم أن رايتر قال في موضع سابق من كتابه إن علماء مسلمين أفتوْا للحكام بجواز عقد المعاهدات والمهادنات، إلا أنه هنا يقول إن الملاحظ هنا أن الساسة هم الذين أداروها، ولا يمكننا أن نجد تقريرا عن رجال الدين (يقصد العلماء) الذين حضروا مراحل المفاوضات، ولا عن مكان إدلاء السلطان بالقسَم!! وبطبيعة الحال فإن المصدر الذي يستقي منه رايتر تلك المعلومات هو مستشرق بريطاني يدعى “هولت بيتر، م.” من كتابه “الدبلوماسية المملوكية المبكرة”. ونحن في تعاطينا مع المصادر الغربية والاستشراقية فإنه ما لم يثبت العمس بالدليل القاطع فإننا نضع كل ما فيها ضمن دائرة الشك والتزوير وحرف الكلام عن مواضعه وقلب الحقائق وتجييرها لصالح الغرب وضد المسلمين سعيا إلى تشويه تاريخهم، الذي لا ننكر- بطبيعة الحال- أنه شهد في محاطات كثيرة العديد من المعاهدات والمهادنات، لكن ترافقها أسئلة كثيرة: لماذا، وكيف ولأي غرض؟ ومن الذي بادر إليها، وعلى اية خلفيّة؟ والأهم من ذلك أنها اتفاقيات ومهادنات جاءت لخدمة راية الجهاد، ولم تأت استثناء للجهاد وتحييدا له، كما يحاول رايتر وأمثاله تصوير الأمر.
فإنك لو بحثت في تلك المعاهدات لوجدتها قد جاءت ضمن السياسة العسكرية للمسلمين في واقع الفتوحات التي خاضوها في المراحل التاريخية المتعاقبة. والأعجب من ذلك أن كل تلك المعاهدات لا يشبه أيٌّ منها الحالة الإسرائيلية في العلاقة مع الفلسطينيين أو الدول العربية، التي يرى الأعمى أن يدَ الطرف الفلسطيني والعربي كانت هي السفلى، وهي أقرب إلى التواطؤ مع المشروع الصهيوني منها إلى معاهدات متكافئة. ولذلك فإنه لو افترضنا أن كل الأمثلة التي يوردها رايتر في كتابه صحيحة بكل تفصيلاتها، فإنها لا تصلح مرجعية لتبرير ما جرى على الساحة الفلسطينية والعربية في أيامنا هذه. وسنأتي على هذا بالتفصيل لاحقا.
لذلك من المهم التنبيه هنا إلى أن تلك العاهدة التي أشار إليها رايتر بين المنصور قلاوون وبين ألفونسو الثالث، ثم بين السلطان الشرف (ابن قلاوون) وبين الملك خايمي ابن ألفونسو الثالث، تقع ضمن هذه الدائرة، وهي في أصلها اتفاقية تجارية، وإن تضمنت بنودًا أخرى، كما هي طبيعة أية معاهدات. وكان المبادر إليها ألفونسو الثالث الذي كان في صراع مع البابا (الذي كان هو مَن يعيّن الملوك وينصّبهم أو يطيح بهم)، كما كانت مملكة أراغون في صراع مع فرنسا، التي كانت في ذات الوقت في صراع مع دولة المماليك ضمن الحملات الصليبيّة، وتسعى إلى استكمال تلك الحملات الصليبية. وقد اشتهرت عن هؤلاء القوم مقولة: “لنكن أولا تجارا ثم نكون مسيحيين”. فقد كان هدف هؤلاء هو تحقيق الأرباح الماديّة والمزيد من المكاسب الاقتصادية، خاصة من خلال التجارة في ميناء الاسكندرية. وقد كان ألفونسو قد أبلغ قلاوون بأنه يريد المزيد من المال وتحقيق الأرباح كي يتمكن من مواجهة فرنسا وسياسات البابا. أما المنصور قلاوون فقد أدرك أهميّة تلك المعاهدة في ظل الظلم الواقع على مسلمي الأندلس من الممالك الإسبانية، بما فيها مملكة أرغون نفسها، التي نقض ملوكها كل معاهدة عقدوها مع قادة مسلمي الأندلسي، وشنوا ضدهم حروبا غادرة.
وقد بحثتُ في عشرات المصادر التي وثّقت تلك المعاهدة بين قلاوون وألفونسو الثالث، فلم أعثر فيما وقع بين يديّ من تلك المصادر أنه ذكر فيها أن الدولتين تكونان بمثابة دولة واحدة!! وجميع تلك المصادر تذكر أن الاتفاقيّة تضمنت: (استقرار المودّة والصداقة من التاريخ المقدم ذكره على مر السنين والأعوام، وتعاقب الليالي والأيام).
وانظر إلى خُبث السرائر وسوء الطوية التي تمهد للغرض الذي يسعى إليه رايتر من خلال الهمز واللمز (الذي يتكرر كتابه) حيث يقول (ص 36): “يبدو أن الواقع السياسي والعسكري هو الذي أتاح المجال للمرونة في تحديد شروط المعاهدات التي أبرمها السلاطين المماليك مع الإفرنج (الكفّار) مغتصبي الأرض المقدسة، وصياغة المعاهدات والأقسام (الأيْمان) التي أشارت إلى العقائد النصرانية، بما في ذلك الاعتراف بأن القديس الشريف محج للصليبيين النصارى”.
وحقيقة الأمر أن الواقع السياسي والعسكري في زمن المنصور قلاوون، وكذلك في زمن ابنه الملك الأشرف الذي استمر في الوفاء لتلك المعاهدة، كان على أفضل ما يكون. فقد كان قلاوون في أوج فتوحاته وانتصاراته، في مواجهة الصليبيين في مصر وكذلك في بلاد الشام، وفي مواجهة المغول، على عكس ما يلمح إليه رايتر بسوء نية لا تخفى على ذي لب، بما فيها من تلميح (صريح) بأنه طالما يسمح للنصارى فإنه يسمح للصهاينة أيضًا!!
وانظر إلى التعبير التالي: (الافرنج الكفار مغتصبي الأرض المقدسة)… وكأن ما فعلوه من عقد معاهدة مع هؤلاء الكفار الصليبيين الذين اغتصبوا الأرض المقدسة هو خيانة للدين وللعقيدة، رغم أن ألفونسو الثالث، الذي حكم بين السنوات 1265- 1291 لم يشارك في الحملات الصليبية، علما أنه عاصر الحملة الصليبية الثامنة.
أما تلميحه إلى قسم اليمين حسب العقائد النصرانية، فهذا تلميح بأن المسلمين قبلوا التعامل مع عقيدة غير عقيدتهم، وهذا تلميح باطل بكل ما فيه من همز ولمز، ذلك أن أية معاهدة بين المسلمين وغير المسلمين يلتزم بها الطرفان كلٌّ حسب عقيدته وما يؤمن به، وليس هناك في الإسلام ما يُلزم بأن يتعهد غير المسلم بالالتزام بالمعاهدة حسب الشريعة الإسلامية. بل هذا قد يشكل له مخرجا لنقضها لأنه أقسم عليها بما يخالف عقيدته التي تُلزمه. وأعتقد أن رايتر يدرك هذا جيدا!
أما إشارته إلى أن الاتفاقية أو المعاهدة يعترف المسلمون من خلالها بأن القدس الشريف محجّ للصليبيين النصارى، فقد خاب ظنّه. لأن الأمر ليس كذلك. ونحن هنا يجدر أن نفرّق بين النصارى وبين الصليبيين الذي شنوا حملاتهم ضد بلاد المسلمين للأسباب المعروفة التي لا داعي لذكرها. أما النصارى، فلهم عهد وعلاقة بالقدس منذ العهدة العمرية. وأما ما يخص الاتفاقية التي هي موضوع حديثنا، فقد جاء فيها: (وأنه متى قصد أحدٌ من رعايا الملك خايمي وزملائه أو رعايا معاهديه زيارة بيت المقدس، ومعه كتاب بخاتمه إلى نائب السلطان، فإنه يُفسح له في الزيارة، ويعود إلى بلده آمناً في نفسه وماله، رجلاً كان أو امرأة . ولا يمنح الملك خايمي مثل هذا التصريح لأحد من أعدائه أو أعداء الملك الأشرف). وكما هو واضح فإن الحديث هو عن السلطان الأشرف قلاوون ابن المنصور، وبين الملك خايمي ابن ألفونسو الثالث، اللذين ورثا الاتفاقية بين والديهما وأقرّاها في معاهدة جديدة. وشتان بين السماح للنصارى بزيارة سياحة لبيت المقدس وبين تدنيسها من قبل الصليبيين، أو أي محتل آخر سابقا ولاحقا،ـ ماضيًا أو حاضرًا. (يتبع).