العصيان المدني.. آخر الدواء الكيّ
ساهر غزاوي
لا بد من التأكيد أولًا أن السياسة العليا الإسرائيلية التي تهدف لتفكيك مجتمعنا الفلسطيني في الداخل والقمع السياسي لأي حالة وطنية، وتهدف إلى إضعاف المجتمع وإبقائه عند مستوى معين من الضغط والحاجة، إلى درجة تخدم سيطرتها، هي من تتحمل بشكل مباشر مسؤولية ارتفاع وطأة الجريمة المنظمة التي تفتك بأبناء مجتمعنا الذين باتوا يصبحون ويمسون فاقدين لأمنهم وأمانهم الشخصي في حيزهم الخاص والعام على حد سواء، وهي من عملت على إشغالنا بشلال الدم الجاري في مجتمعنا، وهي من جعلت من الجريمة المنظمة موضوعًا يتصدر اهتماماتنا ليتحول مطلب إيجاد حل للجريمة والعنف إلى المطلب الأبرز، ومقدم على أيّة قضايا سياسية أخرى.
كذلك، لا يخفى أنَّ السياسة العليا الإسرائيلية إلى جانب أنها توفر لعملائها العرب المتورطين في عالم الإجرام الحماية والحصانة التي تحول دون مكافحة الجريمة المنظمة المستشرية في مجتمعنا الفلسطيني في الداخل، فهي مسؤولة أيضًا عن كميات السلاح الهائلة المنتشرة في بلدات ومناطق عربية، إذ أن 70% من الأسلحة مصدرها من مخازن مقارّ الشرطة ومستودعات الجيش الإسرائيلي. وعلى هذا الأساس نحمّل المسؤولية الكاملة والمباشرة للسياسة العليا الإسرائيلية المتورطة في حمّام الدم الجاري في مجتمعنا، وعلى هذا الأساس نوجه أصابع الاتهام إليها وإلى أذرعها المختلفة مسؤولية التقصير المتعمد في أداء عمل الشرطة ومسؤوليتها في ردع الجريمة المنظمة، مع أنها تملك كل الأدوات والوسائل المختلفة التي ستوصلها إلى القتلة والمجرمين، إذا أرادت ذلك، لذا فليس واجبنا القيام بهذا العمل بدلًا من الشرطة، ولسنا أو بـ “التعاون” معها ولا تقديم “الخدمات” لها.
من الواضح أن السياسة العليا الإسرائيلية المستفيد الأكبر من الفوضى وسفك الدماء ونشر الرعب في مجتمعنا الفلسطيني في الداخل، لا تتعاطى بجدية مع ملف الجريمة المنظمة، بل إن المعظم منا وصل إلى قناعة يقينية أن تعاطي السياسة العليا الإسرائيلية بجدية مع هذا الملف أصبح ضربًا من الخيال. لذا فإنه أمام هذا الواقع وأمام استنفاد الطاقات والأدوات والخطوات الاحتجاجية التقليدية التي لم تنجح في وقف هذا النزيف الدامي، خاصة وأنه في ظل الحالة الميؤوس منها لم يبق أمامنا علاجات متاحة لهذه الآفة ولهذا الداء المستفحل غير الكيّ باتخاذ خطوة العصيان المدني التي تشمل عدم دفع الضرائب وشل أركان الدولة، لا سيّما وأن أحد أهم أسباب نجاح العصيان المدني الذي هو شكل من أشكال النضال لرفض الظلم والخضوع للطغيان، هو وجود اتصال عضوي مباشر بين فلسطينيي الداخل مع المجتمع الإسرائيلي. وإذا لم يكن العصيان المدني تحت مثل هذه الظروف مناسبا وحاجة ومطلبًا ضروريًا، فمتى يكون وتحت أي ظروف؟؟
وإذا كان “العصيان المدني” يُعتبر خطوة جريئة ومتقدمة عن الخطوات المستنفدة في سبيل علاج هذا الداء المستفحل فينا الذي أعضل ولم يعد يقبل أي دواء لحسمه إلا بالكيّ، فمهم أن يرافق هذه الخطوة استقالة جماعية وفورية للأعضاء العرب من الكنيست الإسرائيلي، ومهم أيضًا إغلاق أبواب السلطات المحلية واستقالة جماعية وفورية لرؤسائها وتسليم المفاتيح لوزارة الداخلية لتتحمل هي والسياسة العليا الإسرائيلية عبء إداراتها وتسيير أمورها. كما أنه من الضرورة بمكان الاستمرار بالخطوات الاحتجاجية وإغلاق الشوارع الرئيسية.
وكما أن العلاج بالكيّ قد يتسبب في حدوث بعض الآثار الجانبية، فمن غير المستبعد أن يطال أبناء مجتمعنا من وراء اتخاذ مثل هذه الخطوات الجريئة القليل من الأذى وحتى يضطر مجتمعنا لتقديم بعض التضحيات هنا وهناك جرّاء هذا الأذى، لكن ذلك يبقى قليلا ولا يُقاس أبدًا بحجم الأذى الكبير وشلال الدم الجاري في مجتمعنا، ولا يوجد نجاح بدون نضال جماهيري حقيقي ومؤثر ولا يوجد إنجازات بدون تضحيات، وإذا كانت السياسة العليا الإسرائيلية تغضبها مثل هذه الخطوات فلتتحرك فورًا لتوقف حمّام الدم الجاري في مجتمعنا لأنها هي المتورطة وهي من يتحمل المسؤولية الكاملة والمباشرة عن كل قطرة دم تسفكها الجريمة المنظمة حتى لا تجبرنا على علاج الداء المستفحل فينا باللجوء إلى دواء الكيّ.
لماذا أيضًا مهم جدًا اتخاذ خطوة العصيان المدني والخطوات المرافقة له كعلاج أخير لم يعد يقبل أي دواء لحسمه إلا بالكيّ؟؟ لأن مفاهيم (الخطوط الحمراء) المتعارف والمتفق عليها دينيًا وأخلاقيًا واجتماعيًا ووطنيًا، قد تجاوزتها الجرأة الخطيرة لعصابات الإجرام المنظمة في نشرها للرعب والخوف الذي أنهك مجتمعنا في الداخل الفلسطيني، ففي الوقت الذي لا تزال فيه هذه العصابات تشعر أنها محمية ولا رادع لها، وفي الوقت الذي لا تزال تطغى على قلوب وسمع وأبصار هذه العصابات العمل في الربا والسوق السوداء وتصفية الحسابات بينها، فستواصل تجاوزها لكل الخطوط الحمراء ومفاهيمها التي، بحسبنا، لا يمكن تجاوزها ولا عبورها.
إنَّ أكثر ما يُخشى في هذا الإطار، إن لم يُتدارك الأمر سريعُا وإن لم يمتلك مجتمعنا وقيادته وكل مسؤول فيه خطوة العلاج بالكيّ (العصيان المدني)، أن نضطر كل مرة لرسم حدود للخطوط الحمراء متقدمة كثيرًا عن ما كانت عليه سابقًا لتنطبق علينا من حيث ندري أو لا ندري “نظرية الخنزير”، وهي القضية التي تحولت إلى المطالبة بإخراج الخنزير من السجن فقط، ونُسيت قضية مساحة السجن والقضية التي قبلها والتي قبلها والتي قبلها، حتى القضية الرئيسية الأولى وهي “سجن المواطن الأول ظلمًا” لم يعد أحد يتذكرها.