رحيل صامت.. هكذا هجّر الاحتلال تجمعات سكانية فلسطينية بالكامل
كُتب وكراسات خُطّت بأيدي الطلبة، هو كل ما تبقى من مدرسة “عين سامية” في الضفة الغربة المحتلة، بعد أن هدمتها جرافات الاحتلال الإسرائيلي الخميس الماضي، وصادرت ركامها وقضت على أحلام طلبتها للالتحاق بالعام المدرسي الجديد، فهذه المدرسة هي آخر ما تبقّى من تجمع “عين سامية”، الذي هجّرته إسرائيل عن المنطقة قبل أشهر.
ليس “عين سامية” فقط، فقد تبخّر -أيضًا- أمل الدراسة لطلاب تجمع القبّون البدوي، الذي رُحّل قبل أيام من شرق رام الله، وانتقل للعيش في شمالها بشكل مؤقت حتى أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
أمل (6 سنوات) من تجمع القبّون أتمّت كل تجهيزات التحاقها بالصف الأول مع بداية العام المدرسي الجديد -المقرر غدًا الأحد-، لكنها الآن لا تعرف في أي مدرسة ستدرس، وهل ستتمكن من اللحاق بالعام الدراسي الجديد أو لا؟ كما يقول والدها شحادة إبراهيم أبو بشير.
وأضاف الأب القلق على مستقبل أولاده “نحن هنا في وضع مؤقت للبحث عن قطعة أرض مناسبة للنقل للعيش عليها، ولا نعرف أين ستكون”.
وتجمّع القبّون واحد من التجمعات البدوية التي تسكن السفوح الشرقية للضفة الغربية، انتقلت عائلاته من منطقة جنوب الخليل قبل 25 عامًا، بعد تهجير أجدادهم من مناطق بئر السبع في 1948، وبعد وصولها إلى المنطقة انضمت لها عائلات من بلدة المغير شرقي رام الله.
قرار العائلات بالرحيل كان من أصعب القرارات، كما يقول شحادة “المستوطنين حوّلوا حياتنا إلى جحيم، اعتداءات على مدار الساعة لم نعد نأمن على حياتنا”.
ليس الأول ولن يكون الأخير
تجمع القبّون لم يكن الأول، ويبدو أنه لن يكون الأخير، فقبل أقلّ من شهر رُحّل تجمع “رأس التينة” القريب منه، الذي كان يسكنه 180 فلسطينيًا، بينهم 101 من الأطفال.
نقطة التحول التي جعلت تجمع “رأس التينة” يتخذ قرار الرحيل، كانت اعتداء المستوطنين على منازلهم (التي كانت عبارة عن خيام)، واعتداءاتهم على النساء والأطفال.
مصطفى محمود كعابنة تعرّضت زوجته في حينه للضرب المبرح، مكثت على إثرها في العناية المشددة في المستشفى لأيام، بالإضافة إلى تخريبهم المنازل وإضرام النيران حولها وملاحقة المواشي وقتلها. يقول كعابنة للجزيرة نت “تعمدوا مهاجمة التجمع خلال غيابنا عن المنزل، لم نعد نأمن على النساء والأطفال”.
ليس هذا فحسب، فقد سيطر المستوطنون -كذلك- على الجبل المقابل للتجمع، الذي يلجأ إليه سكان التجمع لحمايتهم من برد الشتاء، وهو ما ضيق الخناق عليهم ودفعهم إلى الرحيل الجماعي، كما كان مع تجمع “عين سامية”.
يبلغ عدد سكان تجمع “عين سامية” قرابة 250 فلسطينيًا، تعرضوا –على مدار العامين الماضيين- إلى كل أنواع الاعتداءات من مستوطنين أقاموا بؤرًا رعوية حوله، حتى كان قرار الرحيل في نهاية مايو/ آيار الفائت. وتفرقت عائلات التجمع ما بين منطقة المغير ودير أبو فلاح قرب رام الله والنويعمة القريبة من أريحا.
المختار محمد حسين كعابنة وأبناؤه وحفدته وهم قرابة 12 عائلة، رحلوا إلى منطقة قريبة من بلدة المغير.
خلال زيارتنا له في مكانه الجديد، شرح كعابنة صعوبة اتخاذهم هذا القرار، مشيرًا إلى أنهم -وعلى مدار عقود- تحملوا كل مضايقات الإدارة المدينة ومنعهم من البناء والخدمات، مضيفًا في حديثه للجزيرة نت “حرقوا خيامنا وسرقوا مواشينا واعتدوا على بيوتنا وحرماتنا”.
وكحال تجمع القبّون ورأس التينة، تعود أصول عائلات تجمع “عين سامية” إلى النقب، وانتقلت للمكان قبل 40 عامًا بعد سلسلة عمليات تهجير قسري من الاحتلال الإسرائيلي، الذي نقلهم أول مرة إلى العوجا القريبة من أريحا، وفي 1969 أجبرهم مرة أخرى على الرحيل إلى منطقة المعرجات، ومنها إلى هذه المنطقة.
الخطة: تهجير كل التجمعات البدوية
جميع هذه التجمعات تقع في السفوح الشرقية للضفة الغربية، شرقي محافظة رام الله ونابلس تحديدًا، التي يقيم بها 12 تجمعًا بدويًا مركزيًا شكّلت على هُوية المنطقة؛ وهي: عين سامية، والقبون، وراس التين، والرشاش، وشرق الطيبة، أبو فزاع، “المليحات- المعرجات”، “المليحات-مغاير الدير”، ووادي السيق، والمرج، ورأس المعرجات، والبقعة.
مسؤول النشر في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان أمير داوود، قال إن إسرائيل سعت لخلق بيئة طاردة للفلسطينيين، وصولًا إلى إجبارهم على الرحيل، وكانت الحلقة الأضعف هي التجمعات البدوية في هذه المنطقة.
وحسب ما قاله داوود للجزيرة نت، فإن الهدف الأساسي للترحيل هو شرعنة البؤر الاستيطانية في المنطقة، فأكثر من 75% من البؤر الاستيطانية الرعوية تقع في تلك المنطقة، ووجود التجمعات البدوية هو ما يحول دون ذلك.
ومن 12 تجمعًا بدويًا، هجّرت الإجراءات الاستيطانية حتى الآن 5 تجمعات بالكامل؛ وهي: عين سامية، والقبّون، وراس التين، والمرج، والبقعة، بينما يتهدد الخطر الآن كلٍّ من المعرجات ووادي السيق.
الدور الذي يقوم به المستوطنون في إغلاق الحلقة على الفلسطينيين، ودفعهم إلى الرحيل ليس عملًا عشوائيًا، كما يقول مدير دائرة المناصرة في مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان، عبد الله حماد.
وأضاف حماد أن ذلك الدور يأتي بتحرك مدروس من قبل مجموعات استيطانية، وضعت خططها قبل سنوات وغير مرتبط بتغيرات الحكومة الأخيرة، وتحديدًا منظمة “ريغافيم” التي أسسها وزير المالية في الحكومة الإسرائيلية الحالية، بتسلئيل سموتريتش.
ففي 2017 قامت المنظمة بملاحقة الإدارة المدنية -التي تحكم اليوم الضفة الغربية- قضائيًا، لتهاونها في هدم منازل الفلسطينيين في المناطق (ج)، فكان الرد بتقديم خطط هدم في كل الضفة، حصلت عليها المنظمة، وبدأت بتأسيس بؤر استيطانية رعوية حولها، وملاحقة سكانها.
وتابع المتحدث “بمراجعة يسيرة نرى أن كل التجمعات التي رُحّلت سبقها تأسيس بؤر استيطانية رعوية من مستوطن أو اثنين”.
وحسب متابعة مركز القدس، فإن عدد سكان التجمعات التي رحلت بالكامل يقارب من 500 فلسطيني، وهذا التهجير لم يكن بالقوة والسيطرة على المراعي فقط، بل باستغلال الثقافة البدوية المتحفظة جدًا، كما جرى في تجمع “عين سامية” عندما كان المستوطنون يقتحمون البيوت ليلًا لسرقة المواشي، أو في القبّون عندما كان المستوطن يدخل إلى مبيت العائلات، ويحتلها لساعات.
يضاف إلى ذلك الحماية الكاملة لهؤلاء المستوطنين، وعدم قدرة السلطة أو المؤسسات الفلسطينية على مواجهة هذه الاعتداءات، كما يقول حماد.
سياسىة شارون
لا يبدو المخطط السيطرة على السفوح الشرقية فقط، فالسياسات نفسها تمارسها سلطات الاحتلال ومستوطنون على التجمعات الفلسطينية في منطقة الأغوار و”مسافر يطا” جنوب الضفة الغربية، وبعض القرى القريبة على المستوطنات.
اللافت هنا -أيضًا- أن هذه السياسية في إجبار الفلسطينيين على الرحيل، هي تطبيق عملي لمقولة لرئيس وزراء الاحتلال السابق أرييل شارون بعد زيارة قام بها لجنوب أفريقيا في 1989، عندما قال: “لا تستطيع في هذا العصر حمل المواطنين وتلقي بهم خارج الحدود، ولكن تستطيع أن تخلق ظروفًا لإقناعهم بالرحيل”.
وبعد توقيع اتفاقية أوسلو التي كان من المفترض أن تنتج دولة فلسطينية على كامل أراضي الضفة الغربية، بدأ التطبيق الفعلي لهذه المقولة التي تحولت لخطة غير معلنة، كما يقول منسق الحملة الشعبية الفلسطينية لمقاومة جدار الفصل العنصري، جمال جمعة.
الظروف التي تحدث عنها شارون في حينه، كانت قتل لأي عملية تنمية ومنع البناء والخدمات الأساسية، أضيف لها في 1997 سياسية الهدم بحجة وقوع مباني الفلسطينيين في مناطق مصنفة (ج)، وفي السنوات الأخيرة إطلاق يد المستوطنين على هذه التجمعات، وهو ما تعرضت له التجمعات التي رحلت بالفعل.
لا يعتقد جمال جمعة أن تطبيق هذه المخططات سيقف عند حد التجمعات البدوية، لكنها ستمتد إلى في كل القرى المهددة بالاستيطان؛ مثل: حوارة وبورين وعصيرة القبلية جنوب نابلس، ولعل المنطقة الأخطر ما يحدث في “مسافر يطا” الآن والأغوار.
استهداف الأغوار
في الأغوار، اختفت بعض التجمعات السكانية بالكامل، وأخرى رُحّل معظم سكانها، وذلك وفقًا للأرقام التي رصدتها الحملة الشعبية الفلسطينية لمقاومة جدار الفصل العنصري.
ففي منطقة حمصة رُحّلت 70 عائلة، وتجمع الحديدية كان عدد سكانها في 1967 ما يقارب من 300 عائلة، أصبحت في 1997 أقل من 150، والآن 7 عائلات فقط. المصير ذاته لمنطقة مكحول في “عين البيضا”، التي كانت تسكنها مئات العائلات، الآن لم يتبق فيها سوى 5 عائلات، بعد أن كانت في 2021 أكثر من 13 عائلة.
عائلة يوسف أبو حسين واحدة من هذه العائلات الخمس في مكحول. تفاصيل حياته اليومية تبدو لمن يسمعها خيالية، فهو يعيش مع أبنائه الثمانية ووزوجته في غرفة واحدة من الصفيح بلا كهرباء أو مياه ولا مواصلات، ومع ذلك تعرض هذا “البيت” للهدم خمس مرات.
حاول يوسف وعائلته التعامل مع كل العقبات التي يضعها الاحتلال أمام بقائه على الأرض التي ولد وترعرع وتزوج بها، لكن المشكلة الأخطر التي باتت تهدده، هي المستوطنون الذين سيطروا على كل التلال المحيطة بها، ويعتدون على عائلته.
المصدر: الجزيرة