آية خطيب والقرار السياسي- الأمني المجحف.. البيانات والدلالات
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
أصدرت المحكمة المركزية في مدينة حيفا قرارها بحق الناشطة الاجتماعية-الإنسانية آية خطيب من قرية عرعرة في المثلث بالحكم أربع سنوات بعد مداولات في أروقة المحاكم استمرت ثلاث سنوات، وكانت قد أمضت في السجون الإسرائيلية سنة وأربعة أشهر قبل أن يتم تحويلها إلى الحبس المنزلي مع قيد الكتروني، وهو ما يعني عمليًا أنها لا تشكل خطرًا على الجمهور.
التهم التي وُجهت إلى خطيب وبموجبها تمت محاكمتها وإصدار الحكم عليها، تتلخص بثلاث قضايا تعتبر في المنظور الأمني الإسرائيلي خطرًا يهدد سلامة الجمهور الإسرائيلي وأمنه. هذه القضايا وفقًا لتصريحات محامي الدفاع بدر اغبارية: “تحويل أموال لمنظمة غير قانونية (حماس)، والتخابر مع عميل أجنبي، ومحاولة تحويل كاميرات لمنظمة غير قانونية (حماس)، والتخطيط لتحويل أجهزة كشف عن الغاز في الأماكن المغلقة تحت الأرض لحركة حماس”.
أحكام متوقعة
كاتب هذه السطور توقع مثل هذه العقوبة مُبكرًا بناءً على مقارباته للحكم الذي تعرض له الشيخ رائد صلاح فيما عُرف اعلاميًا بملف الثوابت، وما تعرض ويتعرض له الشباب الفلسطيني في الداخل الفلسطيني من المعتقلين على خلفية أحداث هبة الكرامة، وبما تتعرض له الساحة الإسرائيلية من هزات عنيفة داخلية شرعت تشاور بعضًا من القيادات الصانعة للقرار الأمني-السياسي المتعلق بالداخل الفلسطيني والقدس بتحسس التحولات الجارية في المجتمع الفلسطيني في الداخل رغم التحولات المجتمعية والاجتماعية المُقلقة التي باتت تضرب مجتمعنا الفلسطيني الفتي عمريًا في الداخل والمتأثر من موجات الردة الأخلاقية الكونية المحمية عالميًا وإسرائيليًا بالضرورة.
لا يمكننا قراءة هذا الحكم بعيدًا عن التدافعات الجارية علنًا وبصمت داخل مجتمعنا الفلسطيني خاصة الفتي منه، والذي أشرت إلى ملمح مقلق من التحولات التي يتعرض لها، لكن المؤسسة الإسرائيلية بجهازها الحاكم الفعلي للداخل الفلسطيني ممثلًا بجهاز أمنها الداخلي مدرك من يقف وراء المقود والسياسات، إلى أنَّ نظريات الحضارة والتدافع الحضاري الذي بات مشهدها السياسي-الأخلاقي واضحًا للعين المُراقبة والمتابعة للشأن الداخلي الفلسطيني لا يجامل ولا يحابي، ففي حين تُدفع أثمان باهظة في الداخل يوميًا تتخلق قدرًا من ستكون حاملة لواء الخروج من المأزقين الأخلاقي-السياسي والاجتماعي- الإنساني وكلاهما خطوط تماس يعيشها مجتمعنا الفلسطيني راهنًا كبدًا وأملًا، فكل الذين يحاكمون وأصدرت بحقهم أحكام قاسية على خلفيات نشاطهم السياسي-النضالي-الاجتماعي إنما، يؤكدون على حقيقة التدافع الحضاري داخل المجتمع الفلسطيني في الداخل، كما كل الذين يتصدرون لمحافل العلم الشرعي وغيره من المنصات المختلفة في عالمنا الرقمي ليكونوا أدوات خلاقة في مسيرة التدافع المذكورة جنبًا إلى جنب مع كل أولئك المتصدرين للمشهدين الإنساني والإغاثي من أبناء مجتمعنا الفلسطيني في كل أماكن تواجده، وهذه المدافعة التي من مجرياتها أي من سننها ومن تدابيرها الدفع نحو الخروج من بوتقة الأزمات التي تُدفع إليها بأخف التكاليف والأثمان كانت خطيب جزءًا فاعلًا فيها، ولم تتوقف للحظة ذلكم أن من سنن مجريات المدافعة في الشأن الاجتماعي-الإنساني أنه لا يتوقف برسم أنه مجرى قدري لا يتوقف، إذ من بياناته ومعالمه تدافع الحق والباطل والعدل والظلم سنن جارية لا تحابي فردًا ولا أمة ولا دولة أيًا كانت قوتها. بل يزعم كاتب هذه السطور أن هذه السنن الجارية قدر لا يمكن للباطل مهما كانت قوته وقفها، إذ هي من تصاريف شؤون الحياة ومن بيانات بدايات ملامح العذاب النازل بالأمم الظالمة مهما كانت قوتها، إذ لطالما ذهبت الحضارات واندثرت بفعل جرائمها الداخلية وتكريس الفوارق الطبقية والاجتماعية والمعيشية لصالح مجموعة أو منظومة أو كيانات داخلية دون أخرى ولن تكون إسرائيل الدولة والكيان والمؤسسة بمعزل عن هذه الدائرة القدرية المحضة، ولعل ما يحدث راهنًا فيها من صدامات ناعمة على كثير من الصُعُد الداخلية يؤسس لمجرى قادم مهما طال وقته، وهو ما يتطلب في المقابل تنظيفًا داخليًا تكون عملياته الجراحية في غاية الخطورة حتى يكاد المُراقب يقول إن ما يحدث مؤسس لزوال مجتمعي.
الخطيب عمليًا كما يعلم الجميع ممن تابع نشاطاتها عبر صفحتها على الفيسبوك قبل اعتقالها، نشطت اجتماعيًا في تبرعات للأطفال المرضى من الضفة والقطاع ممن كانوا يعالجون في المستشفيات الإسرائيلية وبدفع وتشجيع من أطباء إسرائيليين في كبريات المستشفيات الإسرائيلية، وقد حظيت بدعم وتشجيع كبيرين في عموم الداخل الفلسطيني، وحظي عملها الخيري بتقدير عال حتى من غير الفلسطينيين لمحض مسارها الإنساني الشفاف والمتحلي بصدقية عالية جدًا.
المستوحى من هذه الملاحقة
المعنى المستوحى من هذه الملاحقة أنَّ الاحتلال الإسرائيلي الذي بات عسكره يعاني من أرق شديد في ظل التغييرات القضائية وتقليم أظافر المحاكم الإسرائيلية خاصة المحكمة العليا من التحسب والتوجس بتوجيه اتهامات مباشرة لطياريه وقياداته العسكرية وبعض من جنوده ممن عُرفت أسماؤهم خاصة من الطيارين لمحاكم دولية تتعلق بجرائم حرب ضد المدنيين في الضفة والقطاع، وقد كانت هذه الشخصيات محمية من قبل بفضل الثقة الكبيرة التي تمتعت بها محكمتهم العليا في القضاء الأوروبي والأمريكي والغربي عمومًا، لا يزال يحمل العقلية الانتقامية من جهة وإرسال الرسائل إلى كل من تسول له نفسه للعمل الخيري من جهة أخرى، وأن يده الطولى ما زالت موجودة ومعه العصا الغليظة المسماة المحاكم وتبعاتها المالية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية على عوائل المعتقلين خاصة وأن الغياب والمنافحة عن هؤلاء المعتقلين من سمات المرحلة المتميزة بالسائلة في كافة شؤون الحياة دون الخوض في معنى المتابعات وتداعياتها المادية على مستوى طواقم المحامين من جهة والعوائل من جهة أخرى في ظل غياب صندوق قومي يستر أمثال هؤلاء القلة.
كان وسيبقى القضاء الإسرائيلي في تعامله مع ملفات أبناء الداخل الفلسطيني في قضايا السياسة وما يمس الأمن، أمنيًا بامتياز ولن يخرج عن قرارات أسياده من الأمنيين الحاكم الفعلي الناعم للداخل الفلسطيني بعدئذ انتقل من طور العلاقة العسكرية المُباشرة عبر ما سمي بالحكم العسكري إلى حكم عسكري من نوع آخر ناعم وسائل في الوقت ذاته، فالسيد لا ينام وعينه الساهرة باتت تخيف العامة والخاصة، خاصة في عالمنا الرقمي حيث يخضع الجميع ممن يحملون أدوات التجسس المتحركة المسماة أجهزة الهاتف النقال من الأجيال الرابعة والخامسة للمراقبة المستدامة خاصة وأننا في دولة تمتاز بذكائها الاصطناعي الذي شرعت تدخله في مهامها العسكرية والأمنية وبالطبع في الحياة المدنية السائلة المتعلقة بالسياسيين والأمنيين وعموم الناس ممن لهم علاقة بالوضع المجتمعي ويسودون بعض المقامات والمناصب والدوائر.
لو كانت خطيب إسرائيلية؟!
لو كانت خطيب إسرائيلية وعُرف عنها نشاطها الإنساني والاجتماعي لتم الاحتفاء بها على أنها أنموذج للعطاء ولرفعها الإعلام الإسرائيلي إلى منازل الصديقين وفتحت لها المواقع والفضائيات أبوابها واحتفت بها القيادات الإسرائيلية على اختلاف مكوناتها السياسية والأيديولوجية، ولاصطحبها رئيس الدولة إلى الأمم المتحدة وإلى اللقاءات مع اللوبيات والمكونات الصهيونية ولتسابق الإعلام العالمي المرتبط إسرائيليًا لإجراء المقابلات معها، ولكنها فلسطينية، وكل فعل خيري أيًا كان مستواه يخضع للتفسيرات والتحليلات خاصة وأن العقل الأمني الإسرائيلي شكاك بطبعه من جهة، ومخاتل من جهة أخرى، وبين الشك والمخاتلة تكمن صيرورات العمل والمتابعة والمراقبة وتحويل الظن إلى يقين وإصدار الأحكام بناء على هذا الظن المتصور يقينًا.
لست آسفًا على العقل الإسرائيلي الذي يفكر بهذه الحدة والصرامة والسلوك، فهو يعمل للحفاظ على كينونته وذاته وفي هذه الخصيصة لا مساومات ولا تنازلات. بل ينتاب من يتابع الشأن الإغاثي والإنساني على مستوى فلسطين التاريخية نوع من الحسرة والألم وهو يراقب جموع المستضعفين ممن لا يملكون سوى إصدار الصرخات لعل همامًا يسارع إلى إغاثتهم، لكنَّ الخوف تربع على قلوب الكثير من الناس خاصةً العاملين في الحقل الإغاثي وباتوا مرهونين لتوصيات وأوامر ومتابعات واتفاقيات صارمة تشكل حلقة من الحلقات الكونية التي أقرتها المنظومات الدولية تحت لافتة محاربة الإرهاب. وباتت معادلات الإغاثة والعمل الخيري تخضع لمعادلات صارمة نجحت المؤسسة الإسرائيلية الأمنية بتذويتها محليًا وإقليميًا ودوليًا، فكان على سبيل المثال لا الحصر موضوع آية خطيب خاضعًا لهذه الثنائيات، وناصرها على ذلك المؤسسات الفلسطينية الرسمية ممن صنفوا شعبنا الفلسطيني في فلسطين التاريخية تبعًا للونه السياسي ومكونه الأيديولوجي، علمًا أن شعبنا الفلسطيني في غالبيته العظمى ليس كذلك، فلا هو موسوم أيديولوجيًا ولا فكريًا ولا تنظيميًا، وهو ما يضيق مساحات العمل الأهلي الإغاثي الإنساني في واقعنا الفلسطيني.
الثبات من بيانات هذه المرحلة
يشار في الأدبيات المستقبلية ذات الطابع الديني، أننا نعيش سنوات خداعة ومن مخادعاتها أنها مخاتلة وأنها تافهة وأن الرويبضات فيها يتحكمون في مصائر الناس وأن “الشوو” بيان للتقدم والتقليد بل والأنموذج، وقد بات بعضٌ من الفاعلين الإسلاميين ممن يطلق عليهم “الانفلورنس أي المشاهير” الحاصلين على ملايين المتابعات والحاصلين على ملايين الشييرات، يتكسبون من خلال الفعل الإغاثي والإنساني حيث أحالت الأوضاع التي يمر بها عديد شعوبنا هؤلاء الخلق إلى ظاهرة مميزة فرح لها بعض من الإسلاميين القياديين الحركيين المحليين والعالميين في وقت لم تصل نتائج ومخرجات وتداعيات أعمالهم إلى الأهداف الصحيحة إلا قليل، وقد كان بإمكان خطيب أن تكون “انفلورنسية” بامتياز لكنها آثرت العمل المباشر والفعلي المؤثر في حيوات الناس ودفعت ثمنًا- لذلك- باهظًا من عمرها وعلى حساب بيتها وكذلك يفعل المخلصون لقضاياهم التي يؤمنون بها وهو ما يتطلب ثباتًا كما يتطلب مراجعات، إذ من تمام الثبات المراجعات الدقيقة للخطوات والتي هي من أسرار فهم معنى التوبة شرعًا وقدرًا وتصريفًا، والمضي قُدُمًا نحو طريق الحق والعدل.
اختم بأبيات أهديها لخطيب وكل المكلومين والمضطهدين من العاملين لإغاثة المستضعفين والفقراء والمساكين غير المحزبين، قالها شاعرنا العظيم محمد إقبال في رجال الله:
إنما الحرُّ من يُجيد ضرابا لا الذي حَربه تدور هُراء
وسجايا الأحرار تجمع تاجا ذا سناء وخرقة وقباء
من خفايا ترابهم أخذ الدهـْرُ شرارًا فصاغ منه ذُكاء
فطرةٌ حُرَّة تعاف الدنايا من طواف الأصنام عاشت براء