معركة الوعي (168) في مناقشة كتاب يتسحاق رايتر “الحرب والسلام في العلاقات الدولية في الإسلام المعاصر- فتاوى في موضوع السلام مع إسرائيل” (6)
حامد اغبارية
في الصفحة (33) من الكتاب يقول يتسحاق رايتر ما يلي:
“في سنة 658 للميلاد قام والي الشام، معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، بإبرام معاهدة هدنة مع القيصر الرومي، قسطنطين الثاني، كي يتفرغ للصراع على الخلافة ضد غريمه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. عقد معاوية اتفاقا آخر مع غير المسلمين حين أبرم معاهدة مع سكان أرمينيا سُمح للأرمن بموجبها بمواصلة الاحتفاظ بحكمهم في بلادهم. وفي عام 662 للميلاد، بعد تولي معاوية منصب الخلافة، مدد فترة المعاهدة التي أبرمها مع الروم عام 656، ووقع معاهدة أخرى مع النصارى من آل جراجمة- حلفاء الروم في الحد الشمالي. بموجب هذه المعاهدة، دفع الخليفة للنصارى جزية مالية وأعاد لهم أسراهم. أما الخليفة عبد الملك (بن مروان)، فقد قام بعد 27 عاما، أي في العام 689 للميلاد بتمديد المعاهدة التي أبرمها معاوية في حينه مع الروم ووقع على اتفاقية جديدة مع القيصر يوسطينان الثاني”. إلى هنا الاقتباس.
وقد أشار رايتر إلى أنه اقتبس هذه المعلومات من الصفحة 166 من كتاب “العلاقات الدولية في الإسلام” لوهبة الزحيلي. ويشير كذلك إلى أن الزحيلي يقتبس هذه المعلومات من “مروج الذهب” للمسعودي، ومن فتوح البلدان للبلاذري.
وهنا لنا وقفة طويلة مع هذا التزوير للتاريخ، وليّ أعناق الكلام خدمة للأجندة، بهدف الوصول إلى غرض رايتر، وهو الحصول على شرعية لما يسميه “السلام مع إسرائيل”، ومن خلال ذلك الحصول على شرعية للمشروع الصهيوني في فلسطين الإسلامية.
أولا: كتاب الدكتور وهبة الزحيلي “العلاقات الدولية في الإسلام- مقارنة بالقانون الدولي الحديث” يقع في 36 صفحة فقط. ولست أدري كيف يقتبس رايتر من ذلك الكتاب، من الصفحة (166). وهذا خطأ لا يقع فيه من يقول إنه باحث يعتمد البحث العلمي، على الأقل من جهة اقتباس المصادر.
لكنّ الأهم من هذه المسألة الهامشيّة، هو قوله إن الزحيلي اقتبس من المسعودي. وقد راجعتُ كتاب الزحيلي ولم أجده يقتبس شيئا من المسعودي. غير أنه يقتبس فعلا من “فتوح البلدان” للبلاذري الذي يعتمده رايتر كأحد مراجعه. وهذا أيضا تدليس على القارئ، الذي لا يبحث عادة ولا يتحقق من الاقتباسات ومن المصادر التي يعتمدها الكاتب، فيظن أن تلك الاقتباسات صحيحة، وأن ما جاء فيها هو عين الحقيقة.
وهنا لا بدّ من ملاحظة تتعلق بالمسعودي، الذي قد نعود إليه في مقالات قادمة إذا اقتضت الضرورة. فقد قال علماء أهل السنّة رأيهم فيه وفي مصنفاته، وخاصة “مروج الذهب”. ويصفه ابن حجر العسقلاني بأن كتبه طافحة بالتشيّع والاعتزال. وقال عنه القاضي أبو بكر العربي: مبتدع محتال رافضيّ، وهو إلى ذلك يعتبره الاثنا عشرية (الروافض) من رؤوس شيوخهم. وفي هذا ما يكفي للجرح فيما يرويه المسعودي. وإن كان الزحيلي لم يقتبس منه، كما ذكرت.
والآن إلى ما ورد في تلك الفقرة التي اقتبستها من كتاب رايتر. وفيها أكثر من مسألة، لكنني سأتوقف عند اثنتين فقط، لبيان كذب رايتر على التاريخ وتزويره للحقائق.
أولا: يزعم في تلك الفقرة أن معاوية بن أبي سفيان عقد معاهدة مع القيصر قسطنطين الثاني عام 658 ليتفرغ للصراع على الخلافة ضد غريمه علي بن أبي طالب. وهذه وقفة مع واحدة من أطول الأكاذيب في التاريخ، والتي – للأسف الشديد- انطلت على كثير من المسلمين. فهو اتهام لمعاوية رضي الله عنه بالتحالف أو التهادن مع أعداء الأمة ليقاتل خليفة المسلمين!! وهذه فرية باطلة من أساسها.
لم يكن هناك صراع على الخلافة بين عليّ وبين معاوية رضي الله عنهما، بل كان الخلاف حول قضيّة أخرى لا علاقة لها بأحقيّة الخلافة. وكانت هذه القضيّة تتعلق بمحاسبة قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثالث الخلفاء الراشدين. وكان عليٌّ رضي الله عنه قد أرسل إلى معاوية رضي الله عنه يطالبه بالبيعة على الخلافة بعد مقتل عثمان، وكان معاوية واليًا على الشام وقتها، إلا أن معاوية اشترط إعطاء البيعة بمحاسبة قتلة عثمان بن عفان أولا. فكان الخلاف حول هذه القضية، ولم يكن معاوية طامعا بالخلافة أساسًا، بل إن هذه فرية تاريخيّة ظهر كذبها في تحقيقات كثيرة. ومعاوية رضي الله عنه، لم يصبح خليفة مباشرة بعد مقتل علي بن أبي طالب غدرا في المسجد، ولو كان طامعا بالخلافة فعلا، لانقضّ عليها مباشرة، وكانت الفرصة متاحة أمامه لو أراد. لكنه أبى، ولم يتقلد خلافة الأمة إلا بعد أن تنازل الحسين بن عليّ رضي الله عنهما عن حقه في الخلافة. ومن يريد المزيد من التفصيل في هذه المسألة، يمكنه مراجعة كتابي “قراءة في مضامين منهاج التعليم” (صفحات 77-117).
ثانيا: سأناقش هنا مسألة فرية أن معاوية دفع جزية مالية للنصارى وأعاد لهم أسراهم. وهو يقول إنه يقتبس ذلك من كتاب الزحيلي. وإنك عندما تراجع كتاب الزحيلي ستجد أنه في قضيّة إعادة الأسرى فهو يتحدث عن عبد الملك بن مروان وليس عن معاوية. يقول: (وكذلك فعل الخليفة عبد الملك بن مروان مع البيزنطيين (الروم) حينما كان مشغولا بتأديب الثوار في العراق، فقد بعث في أول خلافته بالأموال والهدايا إلى ملك الروم جستنيان الثاني، وصالح الجراجمة ودفع لهم إتاوة أسبوعيّة وردّ إليهم أسراهم…”. وهكذا تجد أن الأمور قد اختلطت على رايتر وهو يبحث عن “إبرة في كومة قش” لتبرير ما يسعى إليه مما ذكرناه آنفًا.
أما فيما يتعلق بمعاوية رضي الله عنه، ومقولة إنه دفع الجزية للنصارى، بعد توليه الخلافة سنة 622 للميلاد، فإن بطلان الرواية ظاهر لكل فطين.
وبعد مقارنة عشرات الروايات من مصادرها العربية والأجنبية (بيزنطية وأرمنية)، التي دوّنت أحداث تلك الفترة ستجد اختلافات كثيرة في تفاصيل تلك المهادنات وفي تواريخها. ولذلك فإن القول بأن معاوية عقد هدنة مع الجراجمة عام 622 ودفع لهم الجزية باطلة. ففي هذه السنة (622 ميلادية) كانت الخلافة في أوج قوتها واستقرارها، ولم يكن هناك أي مبرر (افتراضي) لمثل هذه المهادنة.
ومختصر الكلام إن التحقيق في هذه المسألة يُثبت بما لا يدع مجالا للشك أن هذا لم يحدث. فقد كانت الدولة الإسلامية في تلك الفترة تحت خلافة معاوية في أوج قوّتها، وكانت مستقرة متماسكة، ولذلك لم يكن هناك أي مبرر لعقد هدنة ودفع جزية للروم، الذين كانت دولتهم تعاني من اهتزازات داخلية وصراعات دموية، وهي أحوج ما تكون إلى هدنة مع المسلمين، لتلملم شعث قوتها. وهذا ما حدث فعلا. فقد عقد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه مع الروم ثلاث مهادنات، كانت يده فيها هي العليا. وقد كانت الهدنة الأولى عام 651 ميلادية (31 هـ) عندما كان معاوية واليا على الشام.
وكان امبراطور الروم قسطنطين الثاني هو الذي بادر إليها، وفيها وافق قيصر الروم على احتجاز عدد من الرهائن في قبضة المسلمين كي يضمن معاوية عدم غدر الروم. وقد استمرت هذه الهدنة عامين، وانتهت بغدر الروم ونقضهم للهدنة، فقرر معاوية الزحف إلى جزيرة رودس. وأما الهدنة الثانية فكانت مع الروم أثناء الخلاف مع عليّ رضي الله عنه عام 565 م، وليس عام 658 كما يذكر رايتر، والثالثة كانت عام 678 م، مع الروم للتفرغ لتمرد الجراجمة (المردة) في جبل لبنان، وليس عام 622 كما يقول رايتر.
أما القول بأنه دفع لهم الجزية فهي واردة عند المؤرخين البيزنطيين، الذي تجد لديهم اختلافات في تفاصيل تلك المعاهدة، ما يضعفها ويضعها في خانة البطلان، وكذلك عند المسعودي الذي أشرنا إلى الجرح في رواياته، وعند البلاذري في “فتوح البلدان”. وحتى نبيّن الحق فإنه لا بد من التنبيه إلى البلاذري ورواياته. فهو الوحيد الذي روى حديثا مكذوبا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي فيه أن معاوية يموت على غير ملة الإسلام. وقد أوردها في كتابه “أنساب الأشراف”. وكتاب “أنساب الأشراف” لم يوثّقه أحد من أهل العلم، وحتى الإمام الذهبي رحمه الله حينما ذكره في كتابه “سير أعلام النبلاء” لم يوثّقه ولم يذكر أن أحداً من العلماء ذكره بتوثيق، ولم يوثّق البلاذري إلا الشريف المرتضى، وهو من أشهر الروافض (الشيعة)، وهو المتهم بوضع كتاب “نهج البلاغة” المنسوب كذبا إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وكما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فقد “اتفق أهل العلم، بالنقل والرواية والإسناد، على أن الرافضة أكذب الطوائف، والكذب فيهم قديم”. والبلاذري في رواياته جرح واضح وخلط كثير، وفي كتابه “فتوح البلدان” نقلٌ عن رواة كثيرين من الروافض، أشهرهم لوط بن نوح المعروف بأبي مخنف ، وهو من أكذب الرواة، خاصة فيما يتعلق بمعاوية رضي الله عنه وفي الفترة الأموية كلها. لذلك فروايات البلاذري لا تُعتبر حجة عند أهل العلم، فهو ليس بمصدر موثوق.
أما الرواية الوحيدة المتعلقة بدفع أموال كجزء من هدنة، والتي يكاد يتفق عليها مؤرخو الفترة الأموية فهي تلك التي تتحدث عن هدنة عقدها عبد الملك بن مروان في خلافته مع الجراجمة عام 690 ميلادية. وفي الرواية أنه دفع لهم مبلغا ماليا أسبوعيا (ألف دينار). لكن الفرق في تلك الروايات وبين ما يقوله رايتر نقلا عن “مصادره” فهو أن عبد الملك فعل ذلك لفترة وجيزة، ليس عن ضعف، وإنما كجزء من خطة وضعها للإيقاع بهم واجتثاث تمردهم، خاصة وأنهم كانوا موالين للبيزنطيين ويشكلون تهديدا في خاصرة الدولة الإسلامية.
(يتبع)…