فيلم “ذكريات مذبحة” وتحسس البطحة
ساهر غزاوي
“كاد المُريب بأن يقول خذوني”، هو المثل العربي الشهير الذي يُضرب لمرتكب الخطأ الذي أوشك من كثرة شكه بنفسه ومن كثرة خوفه أن يفتضح أمره مما جنت يداه، فلا يقر له قرار ولا يهدأ له بال من كثرة شكوك الريبة التي تُثار حوله والتي تدعو لسوء الظن فيه. هذا المثل أيضًا قريب مما عبر عنه واحد من أشهر الأمثلة المصرية الشعبية التي تتحدث عن مطاردة الخطأ لمرتكبيه، ويجعلهم يتحسسون لكل كلمة أو إشارة تذكرهم بهذا الخطأ حتى لو لم تكن مقصودة “اللي على راسه بطحة بيحسس عليها”.
ما سبق ذكره، ينطبق تمامًا على الأبواق الإعلامية الموالية لنظام الانقلاب الدموي الحاكم في مصر (مصرية وعربية) التي شنت هجومًا هستيريًا على الفيلم الوثائقي العالمي الذي تم عرضه في لندن يوم 3/8/2023، والذي يحمل عنوان “ذكريات مذبحة”، بمناسبة الذكرى العاشرة للمجزرة البشعة والمروعة في ميداني “رابعة العدوية” و”النهضة” التي ارتكبها الجيش المصري بقيادة جنرال الدم عبد الفتاح السيسي يوم 14/8/2013 والتي راح ضحيتها الآلاف بين قتيل وجريح من مناهضي الانقلاب العسكري على الرئيس الشهيد محمد مرسي، أول رئيس مدني منتخب ديمقراطيًا في تاريخ مصر. هذه الجريمة التي وصفتها منظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية بأنها إحدى أكبر وقائع القتل الجماعي لمتظاهرين سلميين في يوم واحد في تاريخ العالم الحديث.
هذا الفيلم “ذكريات مذبحة”، الذي يوثق مجزرة رابعة العدوية، أنتجته شركة بريطانية، ونفذته وأخرجته مخرجة بريطانية مرموقة، حيث تضمن شهادات حصرية للناجين من مجزرة رابعة العدوية تحديدًا وتضمن كذلك شهود عيان على ما جرى فيها، وهو ما أهله للحصول على جائزة “أفضل فيلم وثائقي” لعام 2023 في مهرجان السويد للأفلام. ويعرض الفيلم في أهم قاعة للعروض الافتتاحية للأفلام في بريطانيا، وهي قاعة “بافتا” (BAFTA)، التي تمثل المؤسسة البريطانية المكافئة للأكاديمية الأمريكية التي تقدم جوائز “أوسكار”.
وهذا ما زاد من سعار وهيستيريا الأبواق الإعلامية الموالية لسلطات الانقلاب في مصر التي استنفرت وجعلها هذا الفيلم بشكل لا إرادي تتحسس البطحة التي على رأسها لتبدأ بمهاجمة الفيلم ومحاولة الرد عليه عبر التزييف والتشويه لحقائق وقائع القتل الجماعي وعبر كيل الاتهامات للمعتصمين في ميداني رابعة العدوية والنهضة وشيطنتهم كما فعلت قبل وأثناء وبعد المجزرة البشعة بحق الشعب المصري والمتظاهرين السلميين الرافضين للانقلاب العسكري، تحت مزاعم أنَّ جماعة الإخوان المسلمين “عملوا على ترويج مظلومية ابتدعوها واخترعوا كافة تفاصيلها، وحاولوا الترويج لها دوليًا”.
لا يوجد أدنى شك أنّ هذه الأبواق الإعلامية شريكة في ارتكاب المجزرة، فهذه الأبواق معادية لخيار الشعب المصري وتعمل لدى سلطات الانقلاب العسكري الدموي، فهي من بدأت عملية تشويه الحراك المناهض للانقلاب في ميداني رابعة العدوية والنهضة منذ الأيام الأولى له بهدف القضاء على أي تعاطف مع المعتصمين المصريين وتلفيق اتهامات عديدة لهم تشرعن الخلاص، حتى وصل الأمر بأحدهم أن يصف يوم المجزرة بأنه “كان يوم نصر للمصريين”!! وهي (الأبواق الإعلامية) من عمل على تهيئة الرأي العام لفض اعتصامات الميادين بالقوة المسلحة وحتى لو أدى ذلك لوقوع خسائر كبيرة في الأرواح. هذا ولا يزال تحريضها الإعلامي مستمرًا إلى اليوم.
لا يتسع المجال لحصر محاولات الأبواق الإعلامية التي كانت شريكة في المجزرة تشويه الحراك المناهض للانقلاب في ميداني رابعة العدوية والنهضة وفبركة وتضليل الأخبار والمعلومات والفيديوهات والصور، لكن أن تصل هذه الأبواق المحرضة لحد اتهام المعتصمين في “رابعة” و”النهضة” بامتلاك أسلحة كيميائية في ميادين الاعتصام، فهذا الكذب والتضليل لا يخطر على بال الشيطان نفسه. وبالمناسبة كذبة الأسلحة الكيمياوية هي من قادت الولايات المتحدة وحلفاءها لغزو العراق واحتلاله وتدميره وارتكاب أفظع المجازر وجرائم القتل بحق أطفال ونساء ورجال العراق، مع أن الكل كان يعلم أن العراق لا يمتلك أسلحة كيماوية!!
عشر سنوات مرّت على المجزرة التي ارتكبت في ميداني “رابعة العدوية” و”النهضة” على يد الجيش المصري بقيادة جنرال الدم عبد الفتاح السيسي وبمشاركة أساسية من وسائل الإعلام المصرية، دون معاقبة مرتكبيها وإنصاف الضحايا وعائلاتهم، إلا أن حجم هذه الجريمة وبشاعتها وآثارها لا يمكن أن تُنسى، فهذا الفيلم “ذكريات مذبحة” أجبر الأبواق الإعلامية على إعادة التذكير بالمجزرة، وتخصيص مساحات كبيرة من أجل الرد على الفيلم، وهو ما يعني إعادة استحضارها أمام الجميع رغما عن أنوفهم وهم يتحسسون البطحة التي على رؤوسهم.
ستظل دماء الأبرياء المطالبين بالحرية لعنة تلاحق كل من شارك في التآمر على مصر وشعبها وخيارها بانتخاب أول رئيس مدني، وستظل كابوسًا يطاردهم لا يستطيعون الفكاك منه. وفي السياق نستذكر مقولة الشيخ سلمان عودة فك الله أسره وأسر كل المظلومين “ألا أيها المستبشرون بقتلهم، أطلت عليكم غُمة لا تُفرج”.