من يعجل بـ “خراب البيت الثالث”؟
ساهر غزاوي
تتصاعد الأزمة غير المسبوقة التي تشهدها المؤسسة الإسرائيلية منذ تأسيسها والتي تعكس حالة من الاضطراب والتشاؤم وخشية وريبة من المستقبل والقلق الوجودي، ولعل أكثر ما يصف خطر انهيار الدولة جراء هذه الأزمة المتصاعدة التي صارت تأخذ منحًا حادًا في الانقسام والتفكك هو التعبير الدارج “خراب البيت الثالث”، غير أن هذا “الخراب” سيكون بأيدي الإسرائيليين لأنهم أصبحوا أكبر عدو لأنفسهم، كما يقول آريه شافيت، في كتابه “البيت الثالث” والذي يُبين فيه أن التحديات الأمنية يمكن التصدي لها، ولكن لا يمكن التغلب على تفكك الهوية، بحسبه. وسيكون هذا الخراب أيضًا بسبب “الكراهية المجانية” التي تسببت بتدمير عالم اليهود السابق بحسب الحكايات الموروثة، فهي ذاتها التي تشكل التهديد الوجودي الحقيقي على مستقبل إسرائيل، بحسب مقال تحذيري لرئيس الحكومة الأسبق إيهود باراك بعنوان “التهديد الحقيقي هو الكراهية بين اليهود”.
هناك الكثير من الأصابع الإسرائيلية التي تتهم بشكل مباشر وغير مباشر الحكومة الحالية، التي يُنظر إليها على أنها الأكثر يمينية وتطرفًا وعنصرية، أنها باتت تشكل خطرًا على الدولة ومستقبلها الوجودي، لا سيّما وأن هذه الأصابع أيضًا تتهم نتنياهو مباشرة بأنه يريد أن يكون ديكتاتورًا لبقية حياته، في ظل عدم وجود دستور ويتحكم بالكنيست والمحكمة العليا وجميع المؤسسات الأخرى، خاصّة وأن منصب رئيس الوزراء، الذي شغله نتنياهو لمدة 15 عامًا ولفترة أطول من أي رئيس حكومة آخر، أصبح صغيرًا جدًا بالنسبة له.
لقد ازداد الحديث في المجتمع الإسرائيلي خلال العقد الأخير عن ما يواجهه من صراعات داخلية عميقة تهدّد وجوده إلى جانب أن الإسرائيليين يستشعرون في هذه الفترة بعقدة “العقد الثامن”، وهو ما حذّر منه كثير من المفكرين اليهود وبعض القيادات السياسية والعسكرية حذّرت من خطره على دولة إسرائيل، إذ يقول الإسرائيليون إن التاريخ أثبت أن “مملكة داود وسليمان”، وهي الدولة الأولى لليهود، لم تصمد أكثر من 80 عاما، وكذلك “مملكة الحشمونائيم”، وهي الدولة الثانية لهم التي انتهت في عقدها الثامن، وها هي “الدولة الثالثة” تزحف بجيل 75 عامًا نحو العقد الثامن.
في الآونة الأخيرة وفي ظل تصاعد هذه الأزمة غير المسبوقة، فإن هناك أصواتًا من داخل هذا المجتمع الإسرائيلي توصلت إلى نتيجة مفادها أن إسرائيل تسير نحو الهاوية ولا ترى حلًا إلا بتقسيم الدولة لـ “مملكتين يهوديتين” واحدة ليبرالية تفصل بين الدين والدولة، وأخرى ذات طبيعة أكثر محافظة ودينية، تحت مسوغات أنه “إذا بقي اليهود معًا، كل اليهود، بكل توجهاتهم وأفكارهم، فإنهم سوف يهلكون جميعًا”. يُضاف كذلك أنّ تصويت الكنيست الأخير لصالح قانون “حجة المعقولية” أعاد إشعال النقاش حول تقسيم الدولة إلى جزأين منفصلين على خلفية التوترات المتزايدة بين الكتل السياسية.
لا يكفي أن صورة التشاؤم السوداوية هذه من المستقبل والقلق الوجودي باتت تؤرق الإسرائيليين، بل إنّ هناك من يعزز من هذا الشرخ والانقسام الحاد في المجتمع الإسرائيلي أمثال وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير الذي قال في أعقاب إقرار الكنيست لقانون “حجة المعقولية” بشكل نهائي: “هذه هي البداية فقط”، أي أنه ماضٍ في سنّ القوانين والتشريعات التي تعزز من تفاقم الأزمة وتزيد من حدة الشرخ والانقسام وتصعيد الصراع في المجتمع الإسرائيلي، وبن غفير نفسه الذي اقتحم المسجد الأقصى هذا الأسبوع، للمرة الثالثة منذ توليه منصبه في الحكومة الحالية فإنه يؤدي دوره أيضًا في تعجيل “خراب البيت الثالث”، وهو (بن غفير) من يؤمن بأن الخلاص اليهودي يبدأ بهدم المسجد الأقصى وبناء “الهيكل” المزعوم مكانه، فقد صرّح خلال اقتحامه الأخير للمسجد الأقصى أن “هذا المكان هو الأهم لشعب إسرائيل وإليه يجب أن نعود ونظهر سيادتنا عليه”!!
إن فكرة بناء “الهيكل المزعوم” متجذرة أيضًا لدى شرائح واسعة من تيار العلمانيين والليبراليين الإسرائيليين، وكذلك بين أوساط ما يسمى “اليسار الصهيوني اليهودي” وليست المنظمات الدينية اليمينية الوحيدة التي تروج لهذه الخطوة. فقبيل بناء “الهيكل، بحسب زعمهم، لا بد من حرق البقرة الحمراء على جبل الزيتون، ومن ثّم نثر رمادها قبالة المسجد الأقصى إيذانًا ببدء طقوس إقامة “الهيكل الثالث” والتجهيز لصعود ملايين اليهود إلى المسجد الأقصى أو “جبل الهيكل” وفقًا لتسميتهم المزعومة.
لذا، فليس مجرد صدفة أن يكشف الإعلام العبري لنا عن إحضار خمس بقرات حمراء إلى إسرائيل بالطائرة من ولاية تكساس الأمريكية، وتم اختيارها بعناية، وليس مجرد صدفة أن تتداول بعض وسائل الإعلام العبرية في الآونة الأخيرة تقريرًا مصورًا يكشف النقاب عن وجود تنسيق وتعاون بين العديد من الوزارات الحكومية الإسرائيلية لرصد ميزانيات وبذل الجهود من أجل تنفيذ رؤية ترميم “الهيكل” المزعوم في ساحات المسجد الأقصى المبارك، لا سيّما وأن حكومة نتنياهو بات تعتقد أن الفرصة مواتية لتحقيق نظرية “المخلص” وفق الفكر الصهيوني الديني المتجدد. وليس صدفة أن ينتشر مقطع فيديو للحاخام يتسحاق بيتسري، وهو يتنبأ بقرب لحظة الخلاص للشعب اليهودي المتمثل في بناء “الهيكل” المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى، ما يحقق نبوءة نزول المخلص المنتظر الذي يحقق الخلاص اليهودي. هذا “الخلاص” إلى جانب الكثير من العوامل والأسباب المذكورة وغير المذكورة هي من سيعجل بـ “خراب البيت الثالث”… (يخربون بيوتهم بأيديهم).