إسرائيل على مفترق طرق (2)
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
لطالما دغدغت العواطف المؤسس الفعلي لإسرائيل، دافيد بن غوريون، حيث طمع أن يستفيق يومًا فلا يجد عربيًا يعيش على “أرض الميعاد” ولكن الرياح مع من تبقى من الفلسطينيين جرت بما لا تشتهيه سفن بن غوريون وحزبه، وبقي الوجود الفلسطيني راسخًا وثابتًا وإن تعرض لهزات طالت ملامح حياته وهويته، ويعيش راهنًا أصعب فترات وجوده المعنوي والهوياتي والأخلاقي وحتى الوجودي.
قامت إسرائيل على أنقاض الشعب الفلسطيني ونكبته، وها نحن نعيش لحظات الدورة الثانية من عمر هذه الدولة التي استعمل دهاقنتها الدين جسرًا لبناء الدولة، واستحلوا كل فعلٍ يصل بهم إلى الدولة بما في ذلك الإبادة والقتل والتشريد برسم ما ورد في التوراة والتلمود، وها نحن نعيش لحظات نشوة انتصار اليمين الديني الذي يرنو للسيطرة المطلقة على الحكم ومفاصله وإعادة العلاقات بين المكونات الثلاثة للحكم، التشريعي والقضائي والتنفيذي، ويفكر بصوت عالٍ في نكبة ثانية لشعبنا الفلسطيني على غرار الأولى، معتمدًا القوة والبأس الشديدين الذي تتمتع بهما الدولة.
قامت إسرائيل ضمن مفاعيل العلاقة بين الغرب والمشرق العربي والإسلامي وسقوط الدولة العثمانية، وفرض الوجود العلماني الليبرالي ومن بعد الوجود العلماني الاشتراكي/الماركسي على التركة العثمانية/التركية، لتعيش الأمة وضمنها الشعب الفلسطيني والداخل الفلسطيني أزمات وصراعات مع الدخيل الوافد والأصيل الراسخ عبر صراعات هوياتية تجلت أبعادها في أحداث الربيع العربي، ولا تزال تداعياتها إلى هذه اللحظات بما خلفته من ندوب في شعوب المنطقة وتحديدًا السني منها. وكان الرابح الوحيد مما يجري في منطقتنا ولا يزال إسرائيل الدولة والكيان، حيث شكَّلت الرّدّة على أمل الشعوب العربية والفلسطينية بالتحرر من ربقة الاستعمار الداخلي بوابة التطبيع الذي فُتِحَ على مصراعيه، وتُرِكَ الشعب الفلسطيني في مواجهة الآلة الاستعمارية الإسرائيلية، وكان من خلاصات هذه المرحلة مراجعات بعض الحركات الإسلامية لمسيراتها انتهى بعضها بإعلان الطلاق الرسمي بين الدعوة والسياسة كالحالة التونسية، وإعادة ترميم العلاقة مع محور إيران كما حدث مع حماس، وتزامنت هذه المراجعة مع إقرار من طرف الحركة بحدود عام 1967م ضمن فلسفات معينة كان قد ابتدأها بعض من قيادات الحركة في كتابة مقالات في هذا الباب في الصحافة الأمريكية.
العلاقات الامريكية-الإسرائيلية علاقات راسخة ببعديها الاستراتيجي والديني المُغذي للاستراتيجي والتحولات الجارية في الإقليم خلاصاتها إعادة ترتيب الأوراق، وما عودة أردوغان إلى تبني سياسات أحمد داوود أوغلو في تصغير المشاكل مع محيطها الإقليمي والاستراتيجي إلا من بيانات التحولات الجارية في المنطقة. وكل ما يحدث في المنطقة سيكون له تأثير على راهن ومستقبل القضية الفلسطينية وإسرائيل، وطبعًا الداخل الفلسطيني. في هذا الخضم والسياق، لا تتوقف المؤسسة الإسرائيلية، بغض النظر عن الجهة الحاكمة، عن سياسات الاستيعاب والتدجين والفرز والتحوير(التعديل والإعادة والمراجعة) في المناهج والبرامج والسياسات للداخل الفلسطيني، ومتابعة سريعة على سبيل المثال لا الحصر لمسائل التكوين والتمكين النسوي وتداعياته العلنية والخفية على مجتمعنا، تضعنا أمام حقائق مذهلة في بيان التفكيك المجتمعي وإعادة رسمه من جديد على أسس ومعايير ليبرالية وافدة هدفها الأساس تحقيق البقاء والديمومة لإسرائيل مقابل الفناء (الفناء الأخلاقي والقيمي بتبني قيم وأخلاقيات وسلوكيات ذات نمط علماني سائل أساسه التفاهة والاستهلاك المؤسس على الواقع الرقمي) والتبعية للأقلية الفلسطينية في الداخل الفلسطيني.
المجتمع الإسرائيلي منذ لحظاته التأسيسية الأولى وهو يعيش أزمات راكمت بعضها بعضًا جعلته مميزًا (يعيش حالة من الهوس بالتميز إمّا لأسباب دينية يعتقدها أو لأسباب موضوعية تعلقت بالصراع وأدواته وتعرجاته) جعل مجتمعاتنا في عالم بعد الحربين الأوروبيتين في النصف الأول من القرن الفائت، إذ لا يزال الصراع الفكري-الأيديولوجي-الأكاديمي قائمًا بين المنظرين الإسرائيليين حول جوهر وماهية المجتمع الذي تمَّ تخليقه بعد قيامها من شتات تم تجميعه من شتات الأرض، هل هو مجتمع غربي حامل للقيم الليبرالية يتموضع في المنظومة الغربية أم مجتمع محافظ يتموضع في المشرق الذي يعيش فيه، أم مجتمع يستبطن قيم الغرب الليبرالي ويسعى للحفاظ على قيمه اليهودية ضمن سياقات ما بعد حداثوية تتميز بالسيولة في العصر الرقمي باعتبارهم أحد مبدعيه إن لم يكونوا من رواده، وبين هذا وذاك، تتجلى بعضٌ من معالم السنن القدرية في مصائر هذه الدولة القائمة على الأرض المباركة والمجتمعات الساكنة عليها، ولعل ما يجري من مظاهرات واحتجاجات بعض من بيانات الشقاق الداخلي حول تعريف الذات وفي أي الدوائر التي ذكرت يمكن موضعتها.
تتمتع إسرائيل بمزايا خاصة بها جعلتها ذات شأن في المنطقة، خاصة فيما يتعلق بالإبداع العلمي مثل تحلية المياه التي أضحت في ظل ما تتعرض له دول الحوض المتوسط وأفريقيا من جفاف، وما تتمتع به من تقنية عالية المستوى ظهر بعض منها في فضائح دولية مدوية، إلى جانب تطويرها المستمر للتقنيات الدقيقة وتكنولوجيا النانو وما بات يعرف بالذكاء الاصطناعي وأدوات التعاطي مع الرقمنة والعصر الرقمي، هذا إلى جانب تصاعد دورها الدبلوماسي وحجم تأثيرها العالمي، ولعل مهاتفة بايدن لنتنياهو الاثنين قبل الماضي بعد قطيعة متعمدة من البيت الأبيض وما تحمله من دلالات في جدل العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل على أكثر من صعيد ومستوى، واعترافها الرسمي بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، وتعيين ملحق عسكري إسرائيلي في المغرب وهو ما يشكل قفزة نوعية في العلاقات بين البلدين من جهة وما يتبع ذلك من مضاعفات في المنطقة عمومًا والمغرب العربي وغرب أفريقيا خصوصًا، بيانٌ من بيانات مزاياها وخصوصياتها هذا كله مع كونها دولة محدودة الثروات والجغرافيا الطبيعية والسياسية.
الخلاف داخليٌ في الأساس
وأما في عملها الدؤوب الخارجي والاستراتيجي الذي لا يتوقف، فإسرائيل الدولة سواء في السياسات الخارجية والعقيدة الاستراتيجية وتشخيص الأعداء ودرجات عداوتهم، فلا تختلف الأحزاب بشأنها وإنما الخلاف الجذري هو في كيفية تصاريف الشأنين العام والخاص محليًا، وكونها تعيش لحظات فارقة راهنًا إنما هو بسبب شقاقها الداخلي حول هوية الدولة والشأن العام وصور الحياة اليومية، هل ستكون ضمن ما كانت عليه أو ستتجه نحو مزيدٍ من التدين والتديين.
تمر هذه الدولة في أسوأ مراحل وجودها في ظل الانشقاقات الأفقية والعمودية التي تعتور المجتمع الإسرائيلي وأجهزة الدولة، وأضحى الصراع الأيديولوجي الأساس الذي يميز هذه المرحلة مع ما سيتبعه من تداعيات سياسية وسياسات تتعلق بالدولة وصيرورات الحكم والعلاقة مع المكونات المختلفة للمجتمع الإسرائيلي من جهة ومع الكل الفلسطيني من جهة أخرى إلى جانب العلاقات مع دول الجوار عمومًا والمطبّعة خصوصًا وفي مقدمتها مصر. هذا إلى جانب الهاجس التاريخي الذي بات يتم استحضاره صباح مساء فيما يُعرف في أدبياتهم بـ”خراب البيت الثالث”، وازدياد المظاهرات مع تمرير قانون المعقولية مع كل ما سيلحق ذلك من تداعيات محلية وخارجية خاصة ما يتعلق بواشنطن، ستكون آثاره العميقة على المؤسسات العسكرية والأمنية ابتداء ثمَّ على باقي المؤسسات والكيانات وسيصل الحركة الصهيونية ذاتها.
معلوم أن سنن الحياة وتصاريفها ليست مبنية على الأماني وعلى مستويات التدين الفردي والجماعي، بل مؤسسة على منظومة قدرية من السنن الإلهية التي من استطاع استعمالها بنجاح وصل إلى مبتغاه الدنيوي في شأن تصاريف الحياة وقيادتها والعكس صحيح. ولئن كانت إسرائيل من الدول التي تمَّ تخليقها في معامل الغرب الليبرالي ضمن معادلات سيطرته على المنطقة في إطار الصراع التاريخي الذي لن يتوقف بين المشرق العربي الإسلامي وأوروبا الصليبية العلمانية المسيحية، فإنها استطاعت سواءً بدعم خارجي أو بعمل مضنٍ داخلي أن تتعاطى مع هذه السنن لتحقيق منجز وجودها الذي لمَّا يكتمل بعد تأسيسًا على أنها دولة ديموقراطية من جهة ويهودية من جهة أخرى، فهي إلى هذه اللحظات لم تُكمل مسارها الديموقراطي ولم تكمل مسارها اليهودي وجمعها بين العلماني المحض والديني المحض أدخلها في سلسلة من الأزمات تعيش هذه اللحظات بعضًا من تجلياتها سواء في المظاهرات اليومية الرافضة للتعديلات القضائية وما يسمى الإصلاح القضائي، أو إعلانات صادرة عن أجسام وازنة رافضة لهذه التعديلات تعتبر تصريحاتها خطيرة نسبيًا على الروح المعنوية للمجتمع الإسرائيلي.
فتصريحات مجموعات كبيرة من المتقاعدين من الجيش والوحدات الخاصة وسلاح الطيران وسلاح التكنولوجيا والشاباك والموساد وإعلانهم عن رفضهم للإصلاحات وأنها تشكل خطرًا على أمن الدولة وأنهم لن يمتثلوا للأوامر بشأن الخدمة الاحتياطية أو الطارئة، تشير إلى حجم الهاوية التي تنحدر إليها مسرعة هذه الدولة مع ما أشرت في المتن من قوتها وصعودها. وقد وُجِهَ هذا الإعلان من طرف المؤيدين بحملات توقيع فاقت مساء الثلاثاء -حين كتابة المقال- كما قالت القناة الـ 14 اليمينية الـ 50 ألف توقيع مؤيد للإصلاحات من ممثلين عن الجهات التي ذكرت، مما يعني أننا أمام انشقاق عمودي وأفقي في المجتمع الإسرائيلي وأجهزة الدولة المختلفة، وسنة الاختلاف إن انتقلت إلى سنة الخلاف مصحوبة بالتصلب في المواقف تغذيها أيديولوجيا عدائية من جانب الطرفين ستفضي عاجلًا أم أجلًا إلى حرب أهلية تأكل الأخضر واليابس. ومن نافلة القول التأكيد على أن لحظة الانفجار تكون دائمًا مفاجئة لطرفي الخصومة، وسرعان ما تنتقل من طور المماحكات الكلامية إلى طور التعرض للأنفس والممتلكات، ودائمًا ستجد من يغذي هذه الجهات/الجبهات لاحقًا لمصالح خاصة قد تكون شخصية أو حزبية أو طائفية أو عرقية، وكل ما ذكرت قائمٌ في المؤسسة الإسرائيلية، وقد تكون أممية أو إقليمية، ولعل منطقتنا والأحداث الجارية فيها بيان لما أقول.
بدأت سنن المفاعيل القدرية تأخذ دورها في عجلة هذه الدولة، ومهما كان حجم الالتفاف الكوني حولها لتمديد أمد وجودها، فإن هذه السنن شرعت بالفعل في عملها القدري الذي من مفرداته الراهنة المواجهة اليومية مع الوجود الفلسطيني على أكثر من صعيد والتآكل الداخلي، الداخل الإسرائيلي، المتجلي راهنًا بالهجرات الهادئة (ירידה- يريداه) هربًا من واقع مقترب مفاده تغلب الديني على العلماني والقومي على الليبرالي والشعبوي على النظامي والعنصري العرقي الشرقي على الآخر غير الشرقي، وما الهجوم العلني الذي شنه “امسالم معلم” على المستشارة القضائية من على منصة الكنيست إلا من تداعيات هذه المرحلة، هذا إلى جانب الترف والفسوق والشذوذ والبهيمية والظلم والبغي واستفحاله والفساد وتعزيز مكانته وحمايته، والفردانية وتغليب المصالح الضيقة على العامة هي من مفردات ودعائم التبدل الحضاري والفناء السنني الذي يطال كل أمة أيًا كان دينها أو نهجها، وأخال إسرائيل متقدمة في هذا الباب وتسعى لإشاعته في عموم الأرض المباركة. ولعل من المناسب أن أشير هنا إلى أن من مفاعيل هذه السنن وجود الحركات الإسلامية في منطقتنا وثباتها بعد الحرب الضروس عليها من قبل الأنظمة العربية والطغم العلمانية وأهل الفسوق والفجور فضلًا عن الحاسدين، حيث صبت حربهم في مصلحة الغرب وإسرائيل كما الأنظمة التي سعت للحفاظ على وجودها وكراسيها، وقد سارعت بعد هذه الحرب للتطبيع مع إسرائيل تأسيسًا على طلبات أمريكية اشترطت الحماية بالتطبيع، ومع ذلك فإن كل المحاولات التي لا تتوقف لحماية إسرائيل لن تمنع السنن القدرية من الشروع بفعلها القدري في المجتمع والمؤسسة الإسرائيلية.