حول سردية “براميل صفورية”
ساهر غزاوي
قبل أيام وتحديدًا في الخامس عشر من شهر تموز/ يوليو الجاري، مرّت علينا الذكرى الـ 75 لاحتلال قرية صفورية، القرية الفلسطينية التي دمرتها العصابات الصهيونية عام 1948، وأقامت على أنقاضها مستوطنة “تسيبوري”، ضمن خطة حملة “ديكل” العسكرية- وهي إحدى مراحل احتلال منطقة الجليل- هذه القرية (صفورية) التي قال عنها مصطفى مراد الدباغ في موسوعته “بلادنا فلسطين” إنها من أهم قرى قضاء الناصرة وأكبرها.
تتشابه إلى حد كبير تفاصيل قصة تهجير أهل قرية صفورية وتشتيتهم داخل فلسطين وخارجها مع الكثير من قصص تهجير أهالي حوالي 530 بلدة فلسطينية ارتكب بحق أهلها أبشع مجازر التطهير العرقي في إطار نكبة الشعب الفلسطيني التي لم تنتهِ فصولها بعد والتي لا زالت مستمرة إلى اليوم من خلال ممارسات قمعية بحق شعبنا الفلسطيني، وبالمناسبة أيضًا فإن شيوع العنف والجريمة ونشر الفوضى والرعب في مجتمعنا الفلسطيني في الداخل ما هو إلا فصل من فصول النكبة التي تراهن السياسة العليا الإسرائيلية من خلاله على دفع أبناء مجتمعنا إلى الهجرة الطوعية هربًا من حمام الدم الجاري دون توقف!!
استوقفتني عبارة من إحدى المقالات العلمية في كتاب (الصهيونية والاستعمار الاستيطاني: مقاربات فلسطينية) الصادر مؤخرًا عن مدى الكرمل، وهي عبارة جاءت على لسان أحد المُتقابلين في الدراسة تصف فرار وهروب أهالي صفورية من برميل واحد فقط!!، وجاء في النص ما يلي: “لعله من قَبيل المفارقة أنّ “أبو مروان” (اسم مستعار) نفسه، الذي انتقد بتهكم نضال الحزب الشيوعي، انتقد كذلك وبتهكم أهالي قرية صفورية لفرارهم في العام 1948، على العكس مما قام به رجال قريته “الأبطال”، حيث قال: أمّا في صفورية، عاصمة الجليل (بنبرة ازدراء)، فقد أطلق الجيش نيرانه وأصاب برميلًا فقط، ففرّت القرية بأكملها، وأصبحت أرضهم أمولًا متروكة، عشرات الدونمات”.
بالمناسبة، هناك الكثير من الجمل والعبارات التي قيلت وحتى أنها تتنقل من جيل إلى جيل لا تزال تتردد على الألسن على أساس أنها حقائق مُطْلَقة وليس سوى أفهام وآراء للناس تحتاج للفحص والتدقيق والمراجعة، فعلى الصعيد الشخصي، منذ نشأتي في الحي الذي أقطنه (حي الصفافرة) الذي معظم أهله وساكنيه من مهجري قرية صفورية (على مرمى حجر من قريتهم المهجرة)، ترددت كثيرًا على مسامعي هذه العبارة “أهل صفورية فروا هاربين من برميل واحد فقط” وبصيغة مشابهة تُقال أيضًا “دحلوا على أهل صفورية كم برميل فاضي (فارغ) وهربوا”!! فهل فعلًا هذا ما جرى ولم يحدث أن سُجل لأهل قرية صفورية مواقف الصمود والمقاومة في وجه العصابات الصهيونية، خاصة وأن الكثير من المصادر تذكر أن “أهل صفورية معروفين دائمًا في الجليل بأنهم محاربون أشداء”.
إنّ مثل هذه العبارات لا تقال دائمًا (بنبرة الازدراء)، بحيث أنه في العديد من البلدات العربية التي يجتمع فيها الكثير من مهجري القرى الفلسطينية نجد بعضًا منهم من يستفز غيره بتعالي والتفاخر بانتسابه لقريته المهجرة، وكأن قريته المهجرة لها ميزات خاصة تختلف عن باقي القرى الفلسطينية المهجرة، وكأنهم ليسوا جميعًا ذاقوا ألم ومرارة النكبة والتهجير ومنهم من هُجر أكثر من مرة في وطنه، لذا فأحيانًا هذه العبارات التي تُقال، على سبيل مثل لا للحصر “أهل صفورية فروا هاربين من برميل واحد فقط”، يُستعان بها للتعبير السلبي من طرف تجاه الآخر في سياق المناكفات والمماحكات الكلامية الضيقة وليست بالضرورة أن تكون للتأكيد على حقيقة رواية معينة في سياق النكبة وسرديتها التي لا تتطابق كليًا مع روايات وسرديات أخرى مُوثقة وموثوقة.
لنلقي الآن نظرة سريعة وخاطفة على ما تذكره الروايات حول معركة صفورية التي أدت إلى سقوطها بيد العصابات الصهيونية في الخامس عشر من شهر تموز/ يوليو 1948، فهذا المؤرخ الاسرائيلي “بني موريس” يشير إلى أن قرية صفورية “قاومت تقدم الجيش الاسرائيلي مقاومة شديدة”، ولذلك سويِّت بالأرض وطُرد سكانها. ويذكر أيضًا أن القرية “كانت تساند بقوة جنود القاوقجي” (أي جيش الانقاذ العربي)، وكان لها تاريخ حافل بالسلوك المناوئ للييشوف (الاستيطان) (1936-1939)”، وهنا يحضرنا بعض أسماء أهالي صفورية البارزة من الشهداء والمقاومين والثوار الذين كانوا في طليعة التنظيم القسّامي وفي مقدمة الصفوف الفدائية الجهادية كما وردت في كتاب “عز الدين القسّام وصفحات من بلاد الشام” للمؤلف حسام الدين بلبل مثل، سليم عبد الهادي، محمد أبو محمود الصفوري، ومحمد الغزلان (المسؤول الأول في لجنة إدارة الأعمال الفدائية).
إذن ما قصة البراميل؟؟ هناك روايات عديدة تُبين لنا حقيقة ما جرى لأهالي قرية صفورية وما دفعهم إلى ترك القرية قسرًا وقهرًا ومن أشهرها الرواية التي تسردها دراسة المؤرخ نافذ نزال تحت عنوان “الهجرة الفلسطينية من الجليل”، ونزال من المعروفين بالاهتمام بالتاريخ الشفوي الفلسطيني وتدوينه مع النّاجين من النكبة عام 1948 إذ يقول: “ثلاث طائرات إسرائيلية قصفت القرية (صفورية) ليل 15 تموز (يوليو)، ملقية (براميل مشحونة بالمتفجرات والشظايا المعدنية والمسامير والزجاج). وقد قتلت القنابل نفرًا من سكان القرية وجرحت عددًا آخر، وهرب كثيرون غيرهم إلى البساتين طلبا للأمان. وصمد المجاهدون وقاتلوا كيفما اتفق. وقاتل كل منهم بمفرده ودفاعًا عن نفسه ولم يكن هناك ثمة أي اتصال أو تنسيق فيما بينهم. وقد انتهت المعركة سريعا. وعند الصباح، قرر كثيرون من الذين اختبأوا في البساتين أن يغادروا صوب الشمال، أو صوب الشرق”. ومن قائمة شهداء صفورية ذُكر: حسن الحاظم، أحمد عبد القادر، الشيخ سليمان أحمد الشريف، فاطمة الطيب، كنة محمد الجراد، صالح عرابه، محمد سالم، أحمد أسعد شحادة، محمد الجراد، الشيخ عمران، إبراهيم أبو رجب، صبحي سليم عبد المعطي، أمينة الطيب، زوجة محمد الجراد، حسن أبو طبله.