أحد معالم المنطقة الصناعية بالقدس.. جريس مريبع يرفض مجاراة التكنولوجيا ويقاوم محاولات التهويد
لا تختفي ابتسامته أبدا رغم الضوضاء في المنطقة الصناعية، والصوت المرتفع الصادر عن ماكينات خراطة ولِحام قطع السيارات التي ينهمك في استقبال وتسليم بعضها داخل مرأبه في حي وادي الجوز بالقدس المحتلة.
يلطخ شحم السيارات ملابسه وكفيه ووجهه الذي تعبر ملامحه عن حجم شقائه في هذه المهنة التي تعلمها خمسينيات القرن الماضي، وما زال يمارسها حتى يومنا هذا رغم خفوت نجمها بسبب ميل الزبائن لشراء قطع السيارات الجاهزة لا صيانة القديمة المعطلة.
ولد المقدسي جريس مريبع عام 1935 في “لفتا” المهجرة عام 1948 رغم أن عائلته تنحدر من مدينة اللد (شمال). وفي هذه القرية عاش طفولته، ويذكر أنه كان يتوجه إلى المدرسة الوطنية الأرثوذكسية بالقدس عبر الحافلة صباحا ومشيا على الأقدام ظهرا نحو “لفتا” مجددا.
وصف العقد الأول من حياته بالهادئ، لكن منذ بلوغه سن 13 بدأت رياح التشتت والتهجير تعصف به وأسرته التي تهجرت من “لفتا” ربيع 1948 لتحط رحالها في مدينة اللد وتُهجر منها بعد أشهر.
ومن اللد إلى رام الله، فالأردن وهناك عاشت العائلة في مخيمي الزرقاء والكرامة قبل أن تقرر العودة إلى القدس مرة أخرى.
استقر الحال بجريس وأسرته في بلدة عناتا شمال القدس، وقرر مطلع الخمسينيات تعلم مهنة خراطة الحديد لقطع السيارات، وبعد 10 أعوام من العمل بأحد المرائب قرر الانفصال واستئجار مرأب خاص به في منطقة وادي الجوز الصناعية وافتتحه عام 1963.
مرأب أثري وعمل تقليدي
يتنقل بين ماكينات مرأبه ويتحدث عنها بدراية عميقة، قائلا “هذه أول ماكينة اشتريتها للخراطة، وصُنعت في بلغاريا عام 1962، ثم اشتريت بشكل تدريجي مخرطة إسبانية وماكينة لِحام الحديد من رومانيا وأخرى ألمانية و3 ماكينات أميركية”.
جميع الماكينات التي يعمل عليها جريس أثرية أو شبه أثرية، ويقول إن عمر الآلة ليس هو المهم وإنما من يعمل عليها، في إشارة إلى أن حرفية صاحب المهنة هي الأساس في إتقان العمل وليس حداثة الماكينات.
ويرفض هذا المواطن شراء ماكينات جديدة تُسهّل عمله وعمل نجله نيكولا بشكل كبير، تماما كما يرفض اقتلاعه من مرأبه ليحلّ مكانه “وادي السيليكون” وهو مشروع تكنولوجي تعتزم بلدية الاحتلال بالمدينة المقدسة تنفيذه في وادي الجوز على أنقاض المنطقة الصناعية.
ويعلق جريس على خطر إخلائه وأصحاب المهن الأخرى من هذه المنطقة الحيوية بالقول “من الصعب الانتقال إلى أي مكان آخر لأن المرائب تكمل بعضها، وأصحاب المركبات اعتادوا ركن سياراتهم، ونحن نعمل كل في مجاله لتسليمها جاهزة بعد الصيانة، وبالتالي لا يمكن تشتيتنا بهدف بناء مشروع قدم الجميع اعتراضا ضده”.
وتعتزم بلدية الاحتلال بالقدس تنفيذ مشروعين ضخمين على أنقاض نحو 180 منشأة للمقدسيين بالمنطقة الصناعية في وادي الجوز، الأول سيكون امتدادا لمشروع “مركز مدينة القدس الشرقية” والآخر “وادي السيليكون”.
ويروّج رئيس البلدية موشيه ليؤون وطاقمه لمشروع “وادي السيليكون” وقد عُقدت جلسات عدة مع أصحاب الأراضي بالمنطقة الصناعية على أنه مشروع “الهايتك” ذو التقنية العالية الأضخم بالقدس، والذي سيبنى على مساحة 200 ألف متر مربع، لإنشاء أماكن تشغيل في مجال التقنية العالية لـ 10 آلاف خريج وأكاديمي مختص من المقدسيين.
اقتلاع وإحلال
وتبلغ مساحة الأراضي التي من المفترض أن يقام عليها مشروع “وادي السيليكون” نحو 30 دونما، أما الأرض التي تعتزم البلدية ضمها إلى مشروع “مركز مدينة القدس الشرقية” فتبلغ مساحتها 5 دونمات، وتتبع لوقف عائلة الخطيب، ومن المفترض أن تُبنى عليها مبان سكنية تقع أسفلها مصالح تجارية تتجاهل الاستخدام الحالي للمكان بشكل كامل.
وقد بدأ التضييق على أصحاب المرائب بهذه المنطقة قبل 3 أعوام عندما وزّعت البلدية عشرات أوامر الإخلاء التي حملت عنوان “وقف الاستخدام الاستثنائي” معتبرة أن أصحاب “الكراجات” يستخدمون المحالّ بشكل استثنائي ومخالف منذ عقود.
ثم أطلت بلدية الاحتلال عليهم بإجراء تعسفي جديد مطلع عام 2022 عندما أخطرتهم بهدم محالهم بحجة بنائها دون ترخيص. ورغم تقديم الاعتراضات فإن اللجنة اللوائية للتخطيط والبناء اجتمعت قبل أيام بعد رفض الانصياع لرغبة المقدسيين المتضررين، وهي ماضية في طريق المصادقة على هذا المشروع التهويدي الضخم.
المصدر: الجزيرة