الداخل الفلسطيني.. إلى أين؟
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
تقديم..
ستنخرط في أذهان الناس عملية القتل البشعة التي بثتها صفحات التواصل للشاب الذي قُتلَ من مدينة قلنسوة وهو في داخل سيارته مساء الأحد المنصرم، معبرة عن حجم هوان الإنسان المسلم على يد إخوانٍ له من المسلمين. وسيبقى هذا المشهد عالقًا في أذهان كل من سيشاهده ليس من باب زراعة الخوف في نفوس الناس، بل من باب حجم هوان الإنسان المسلم وكيف يقتله أخ له مقابل دراهم معدودات، هذا فضلًا عن حجم الاحتقان الذي بات يعتمل في صدور الآلاف من الشباب الحيّ من الداخل الفلسطيني ممن قد يصل إلى لحظة التصرف الفردي الموصل بنا إلى فتنة عمياء لا تبقي ولا تذر. وأخال أن السلطات الإسرائيلية، وهي في هذه القضية، قضية العنف المستشري، تتعامل معنا كمحتلين لا كمواطنين ولا حتى كمقيمين، إذ العقلية الدينية والصهيونية وهاجس الوجود يفرض نفسه كما يبدو دون استشعار عملي لتداعيات القتل الحادث بيننا والزاحف إليهم، فبالنسبة لهم نحن فائضٌ بشري، ثمة حاجة فورية للتخلص منه، فضلًا انه محتل لوطن موعودٌ ومقدس، فنحن في مخيلتهم عالة عليهم في جيناتنا وأخلاقياتنا بُنىً من العنف والعنف المُضاد. ويشجع هذه العقلية الحاكمة، راهنًا، سلوكيات القتل الجارية، بغض النظر عن خلفياتها وأسبابها ومنشِئاتها. تتحدث المدرسة العلمانية عن انتهاء صلاحيات الإنسان بإرساله إلى دور العجزة بعدئذ قام بدوره الكبير في دفع عجلة الحياة باعتبار أنه قام بدوره في المجال العمراني والأخلاقي العلماني للحياة ويبدو أننا في الداخل الفلسطيني قد تبنى بعضٌ من أبنائنا هذه النظرية عبر إنهاء بعضهم البعض خاصة ممن آثروا أن يكونوا أدوات في عالم الكسب الحرام والاقتتال على المال باعتباره روح الحياة كما يعتقدون، فيستبيحون كل شيء من أجله بما في ذلك الأعراض والحياة. وإذا كان الشباب هم المادة الحية لكل مجتمع يسعى للنهوض، فإن سؤال المستقبل، أين يتجه مجتمعنا مع شبابٍ باتت حياته تدور في فلك المادة والكسب الحرام وينضم إليهم طوابير من الشباب؟ سؤال واجب الوقت وذلك قبل فوات الأوان إذ حركة الحياة لا تنتظر أحدًا خاصة مع بُعدنا في الداخل الفلسطيني عن البوصلة القرآنية.
بيــــان..
قالت أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها، “إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يقولُ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ! ويْلٌ لِلْعَرَبِ مِن شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ؛ فُتِحَ اليومَ مِن رَدْمِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مِثْلُ هذِه. وحَلَّقَ بإصْبَعِهِ الإبْهَامِ والَّتي تَلِيهَا، قالَتْ زَيْنَبُ بنْتُ جَحْشٍ: فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وفينَا الصَّالِحُونَ؟ قالَ: نَعَمْ؛ إذَا كَثُرَ الخَبَثُ”. حديث صحيح رواه البخاري .
هذا حديث شريف عظيم النفع والبيان لمن ألقى السمع وهو شهيد، وهو حجة أقدّمه ابتداءً إلى كل من يملك حظًا مهمًا كان أو قليلًا لوقف حالة الخبث المستشري في مجتمعنا في الداخل الفلسطيني، وأقصد ببيانه قبل كل شيء حملة العلم الشرعي أيًا كانت مستوياتهم الشرعية، فهم أول من يتحمل مسؤولية الحال الذي آل إليه مجتمعنا، إذ الصدع بالحق أساس بيان العدل ودفعه بين أفراد المجتمع وهم أكثر من لهم ولاية على الخلق أدبًا وخٌلقًا وشرعًا.
يكتب مائير طحينة ومحمد العطاونة في كتاب تحت عنوان “مسلمون في دولة يهودية -2018” في مقدمة الكتاب ما يلي: “إقامة دولة إسرائيل عام 1948 أدى إلى فصل مادي تام بين الأقلية العربية وفضائها الإسلامي الشرق أوسطي وبالذات عن الإخوان المسلمين في مصر. هذا الانفصال كان بسبب الحكم العسكري الذي فرضته إسرائيل على الأقلية العربية والذي ألغي عام 1966. هذه الفترة شكلت صدمة في الذاكرة الجمعية وآثارها في مختلف شؤون الحياة بما في ذلك الحياة الدينية كانت بعيدة المدى، فقد تحول المسلمون من أغلبية إلى أقلية فقدت مواردها الدينية والاجتماعية وفقدت قيادتها الدينية العملية، ومقابل ذلك أضحت هذه الأقلية مكشوفة لجهود العلمنة من قبل الحكومة ولموجات المد القومي الثوري القادم من الفضاء العربي. هذه الموجات أضعفت الإسلام كعامل جوهري مهم ومُجَمِع. ساعد على هذا الاستضعاف (الضعف) قطع التواصل مع المجلس الإسلامي الأعلى حيث ألحق الحكم الأردني به ضررًا بالغًا كجزء من توجه أوسع لطمس وتشويه الهوية الفلسطينية… ص16”.
مٌشكَلٌ له أصلٌ تاريخي..
فقدَ الداخل الفلسطيني قياداته الدينية والسياسية على حدٍ سواء وعملت معامل الحكم الإسرائيلي مفاعيلها في من تبقى من ساكنة البلاد تضييقًا وتحرشًا ومصادرة للأرض ومحاصرة مستمرة رافقتها عمليات تجهيل وإفقار متعمدة للسكان، بما تخلل ذلك من مدافعات داخلية تدفع نحو حفظ بيضة الحياة، إلى جانب عمليات علمنة متعمدة للمجتمع السني أثمرت نكدًا نقطف بعضًا من ثماره المٌر والعلقم، رافقته عمليات تخصيب وتخليق لقيادات في الداخل الفلسطيني مغيبة عن همومه مهمتها الأساس تبيض الاحتلال ومنع أي مسعى لمواجهته ومقاومته، وكان للمخاتير وزعماء الحمائل والعشائر دورٌ أساس في بناء المشهد الذي بتنا نقطف بعضًا من ثماره المٌرة النكدة.
لم تتم حتى هذه اللحظات قراءة تحليلية دقيقة للتحولات الاجتماعية والمجتمعية التي حدثت في مجتمعنا العربي الفلسطيني المسلم، والدور الذي لعبه لاعبون أساس في هذه العملية ابتداءً من المؤسسة الحاكمة وانتهاءً بالمجموعات المسماة النخب ودورها في الأوضاع التي وصلنا إليها، وهذا الطرح ليس من باب جلد الذات بل من باب النقد الذاتي، إذ من مهام النقد الذاتي تبيان نقاط الخلل والضعف في المجتمع والعمل على سد ثغراته، ذلكم أن حركة الحياة لا تتوقف وإنما يعتورها عقبات تدفع لتغيير مساراتها مثلها كمثل السيل الذي يغير مساراته دفعًا لتقدمه ووصوله إلى المصبات، وكذلك المجتمعات تسير نحو مصبات نهائية. ويبدو أن انتشار التفاهة والرذيلة وتسويق الخنا وأنواع الفجور على أنها فنٌ وعلمٌ وبعضٌ من تصاريف الحياة، هي عملية تهيئة لأن نتخلق بقيم غربية وافدة حطت رحالها في مجتمعاتنا الواهنة الضعيفة، إذ يشرف على هذه العملية فضلًا عن المؤسسات الرسمية مؤسسات المجتمع المدني وعديد العلمانيين الليبراليين وحتى بعض من الإسلاميين ممن باتوا يؤمنون بلبرلة الدين تبعًا للتحولات الجارية محليًا وعالميًا. لم تحدث حتى هذه اللحظات-على حد علمي- قراءات عميقة للتحولات الاجتماعية والمجتمعية التي جرت في مجتمعنا العربي الفلسطيني خلال فترة الحكم العسكري وما تلاه اللهم إلا أبحاثًا وتقارير تبنت واعتمدت في تحليلاتها المدرستين العلمانية الليبرالية والماركسية، وفي السنوات الأخيرة شرعت تظهر بعض الدراسات والكتابات عما بعد العلمانية والعلاقات مع الاستعمار لم تتناول التحول الاجتماعي بقدر تناولها التأثيرات الما بعد استعمارية على مجتمعاتنا ومنها الداخل الفلسطيني.
مع كتابة هذا المقال يكون قد سقط كل 44 ساعة قتيل منذ مطلع هذا العام، من أبنائنا في الداخل الفلسطيني ويكاد يكون 100% من القتلى من المسلمين الذين يشكلون أغلبية مطلقة في الداخل الفلسطيني.
قديمًا قالوا في الأثر، إن من ليس له كبير لا يملك التدبير، والتدبير معنى له حظوظه الشرعية والعلمية والإدارية والعملية في حيوات الناس إذ يتجاوز المعنى المادي الصرف ليكون معنى قدريًا مستمدًا من الخالق سبحانه المُدبر لكل أمر. ولئن كان التدبير شأنًا ذاتيًا فهو بالقطع شأنًا سياسيًا تتعاظم أهميته وجلالة معناه حين يفقد المسلم فردًا وجماعةً وأمةً من يتولى أمر المسؤولية بحدودها الدنيوية.
ثمة ضرورة شرعية أن يقوم من أبناء المشروع الإسلامي همامٌ متخصص في علم الاجتماع ذو حظ في فقه الواقع ومدركٌ للمشكل السياسي المحلي والإسرائيلي والقطري، ومتنبه ويقظ إلى حركة الحياة الدائرة من حولنا بقسماتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وقارئ يقظ لأفكار وفكر الآخرين، ومتفهم لمعاني ونظريات التحولات الاجتماعية في المدارس الفكرية المختلفة ومتتبعٌ لسياسات الأمم المتحدة ومنظماتها فيما يتعلق بمنظومات التحول الاجتماعي والمجتمعي القهري المفروض على الشعوب الضعيفة، شعوب العالم الثالث، فيمضي بعضًا من عمره في قراءة واقعنا المخصوص، الداخل الفلسطيني السني، بما يملك من خصوصيات وحظوظ يقف على تفاعلاته الاجتماعية مقاربًا السياسي والسياسة متتبعًا حركة التأريخ الخاصة بنا نحن في الداخل الفلسطيني حيث وصلنا إلى مرحلة تضرر فيها العمل السياسي بل وفقد معناه مخالفًا ومناقضًا كل أقليات الدنيا صاحبة الأرض والوطن والتاريخ. ووصلنا إلى محطة بات فيها مجتمعنا تعبًا ومرهقًا نتخوف عليه من لحظة التفكك والانتهاء، إذ ما عاد الإسلام فيه إسلام اليقظة والعمل والتقدم وصناعة الحياة ومواجهة الخطوب بقدر ما أضحى إسلام “والزم بيتك” . وهذا الذي أنادي به يحتاج إلى متصدق يمول مثلَ هذا المشروع الكبير إذ نتائجه ستكون خيرًا كبيرًا ووافرًا ليس علينا نحن في الداخل الفلسطيني، بل على منطقتنا كلها ويؤسس للتغيير ذلك الجامع بين علم النقل والعقل، قُدُمًا نحو سفينة الخلاص، وذلك قبل أن يُقال أكلت يومَ أٌكل الثور الأبيض.
مجتمعنا إلى أين؟
ينص القانون الثالث من قوانين نيوتن للحركة في الميكانيكا التقليدية، على أن القوى تنشأ دائمًا بشكل مزدوج. حيث يكون لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار وعكسه في الاتجاه. وتعيين إحدى القوتين كفعل والأخرى كرد فعل هو تعيين تبادلي حيث يمكن اعتبار أي من القوتين فعلًا في حالة اعتبار الأخرى رد فعل، والعكس صحيح.(راجع ويكبيديا/ مادة رد الفعل، فيزياء)، وهذا القانون ينطبق تمامًا على حركة الحياة ويؤكده قانون المدافعة، الذي يؤكد برسم كونه سنة قرآنية ظاهرة، إذ المدافعة في جوهرها حركة استجابة للحاجات وللتحديات التي تعتور الإنسان فردًا وجماعةً وتهدد أصل وجوده المادي والحضاري والمعنوي وهو ما يهدده تعبديًا وعمرانيًا بكونه راسم الحياة والمستخلف فيها وعليها. ولذلك فالقتل الحاصل يوميًا في مجتمعنا وإن حمل معان متناقضات تتجاوب حاليًا مع معنى المدافعة ضمن معطيات البقاء والوجود القائم على أرض مباركة تلفظ الخبث عنها باستمرار، إلا أن التحديات المترتبة على هذه الجرائم مجتمعيًا (أسر وعائلات وحمائل) وماديًا (الفقر، العوز، الفاقة..) واجتماعيًا (الاستمرار في منحنيات الجريمة والتبعية لوسطائها واتخاذها ملجأ وموئلًا ومعاشًا يترزق منه، التخلف الاجتماعي، التبعية، العمالة، …) ستدفع المدافعات في المعنى الوجودي كما ذكرت سابقًا وتاليًا سيهدد المعنى الوجودي التعبدي ثم التوحيدي، ثم فإن الجريمة بما هي واقعًا اليوم يمكن أن تصل بنا كمجتمع إلى مرحلة اللا-عودة وتذهب بمجتمعنا الفلسطيني إلى لجج لا قبل لنا بها وأن تبدت راهنًا على أنها “حربٌ” بين مجموعات نفوذ هنا أو هناك أو سرقة أرزاق الخلق تحت مسميات مختلفة، سيدفع نحو تدخل خارجي يؤدي إلى اجتثاث هذه الآفة وسيكون ثمنها باهظًا إذ في سنن المدافعة كما الفيزياء ثمة مقابلات وأثمان تُدفع، والمؤسسة الإسرائيلية لن تجتث العنف القاتل إلا بثمن يدفعه المجتمع ليس أقله الولاء والخروج من أثواب بعينها، ذلكم أنها تقع ضمن منطق السنن المتعلق بالمداولة والابتلاء فضلًا عن حفظ النفس والنسل والوجود تاليًا لحفظ الدين.. التدين الفردي. وهو ما سأتطرق إليه لاحقًا.