كيف أضعف قيس سعيّد الدبلوماسية التونسية في أقل من عامين؟
رغم الزيارة التي أدتها الثلاثاء رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، فإن تونس تعاني من شبه عزلة دولية غير معلنة تزامنت مع أزمتها الاقتصادية، ما عطّل مفاوضات صندوق النقد الدولي بحسب خبراء.
ومنذ استحواذ الرئيس التونسي على كافة السلطات عقب إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021، فإن قيس سعيّد اعتمد على وزيري خارجية، ضمن حكومة واحدة، وقد تمسك بوزيره السابق عثمان الجرندي بعد إقالة حكومة هشام المشيشي، قبل أن يعفيه ويعوضه بنبيل عمار في شباط/ فبراير الماضي..
ورغم تعيين وزير جديد للخارجية، إلا أن الدبلوماسية التونسية تراجعت بشكل غريب، لا سيما في العلاقة بالدول الأفريقية والأوروبية، في ظل شغور مناصب السفراء في حوالي 40 دولة، من بينها بلدان ذات أهمية لتونس.
الاتحاد الأوروبي
وتُعتبر رئيسة الوزراء الإيطالية ميلوني من أبرز زعماء العالم الذين يدعمون سعيّد في خياراته، على عكس بقية الزعماء داخل الاتحاد الأوروبي، الذي يُمثل الشريك الاستراتيجي لتونس.
وفي آذار/ مارس الماضي، حذر مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل من انهيار الوضع السياسي والاقتصادي.
وقال بوريل إن الوضع في تونس يسير نحو انهيار وشيك، وإن الانهيار يهدد بتدفق المهاجرين للاتحاد الأوروبي، مؤكدا أن الاتحاد لا يمكنه غض الطرف عن ما يحصل في تونس، مستبعدا في الوقت ذاته مساعدة تونس إذا لم توقع اتفاقا مع صندوق النقد.
لكن الخارجية التونسية رفضت تصريحات بوريل، مبينة أنها “غير متناسبة سواء بالنظر إلى القدرات الراسخة والمشهود بها عبر التاريخ للشعب التونسي على الصمود، وكذلك في ما يتعلق بالتهديد الذي تمثله الهجرة من دول الجنوب إلى أوروبا”.
ويعكس شغور منصب منصب السفير التونسي في بروكسل، المسؤول عن العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، الذي كان يشغله وزير الخارجية الحالي، علاقة سعيّد ببقية الأوروبيين.
وتأثرت العلاقة القوية بين تونس وفرنسا منذ استحواذ سعيّد على السلطة، حيث تحدث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن “معاداة السامية” على خلفية الهجوم الذي استهدف محيط معبد يهودي جنوب تونس، ما دفع سعيّد إلى رفضه بشدة.
ويأتي ذلك في وقت تنقسم فيه أوساط دبلوماسية ومراقبون في شأن تقييم العلاقات بين فرنسا وتونس، لا سيما بعد الاتهامات المتبادلة الأخيرة بين البلدين، وأيضاً بسبب الأزمة المرتبطة بالتأشيرات التي تُمنح للتونسيين لدخول فرنسا.
وسبق لباريس أن شددت على أهمية عودة تونس إلى وضعها الديمقراطي، داعية إلى إجراء حوار وطني شامل بين جميع المكونات السياسية في البلاد من أجل الخروج من الأزمة السياسية.
وكان الرئيس التونسي خسر العديد من الدبلوماسيين الذين لديهم علاقات طيبة داخل الاتحاد الأوروبي، حيث استقال عبد الرؤوف بالطيب المستشار السياسي لقيس سعيّد من منصبه، في 3 شباط/ فبراير 2020، قبل أن يلتحق بمبادرة “مواطنون ضد الانقلاب”، المناوئة لرئيس البلاد وإجراءاته التي أعلن عنها في 25 تموز/ يوليو 2021.
وعقب إعلان سعيّد تدابيره الاستثنائية في 25 تموز/ يوليو التي أعلن من خلالها عن تجميد اختصاصات البرلمان، ورفع الحصانة عن نوابه، وإلغاء هيئة مراقبة دستورية القوانين، وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية، وترؤسه للنيابة العامة، وعزل الحكومة وتعويضها بأخرى غير مصادق عليها من قبل البرلمان، فإن القصر الرئاسي عرف مغادرة المستشار الرئاسي المكلف بالعلاقة مع الاتحاد الأوروبي مصطفى النابلي، وزميلته سارة معاوية المستشارة المكلفة بالعلاقات الدولية.
وفي 24 كانون الثاني/ يناير من العام الماضي، أعلنت مديرة الديوان الرئاسي، نادية عكاشة، المقربة من دوائر الفعل السياسي في فرنسا، استقالتها من منصبها بسبب ما اعتبرته “اختلافات جوهرية في وجهات النظر”، بحسب منشور لها في حسابها الرسمي على “فيسبوك”.
الحرب الروسية الأوكرانية
دبلوماسي تونسي سابق، طلب عدم ذكر اسمه، اعتبر، في حديث لعربي 21، أن علاقة الاتحاد الأوروبي بسعيّد تتسم بالفتور، بسبب امتناع تونس عن التصويت في نيسان/ أبريل 2022 على تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، بسبب حربها على أوكرانيا.
واعتبر أن “موقف الحياد الذي اتخذته تونس من الحرب في أوكرانيا عزز منذ ذلك الوقت الانطباع لدى الأوروبيين بأن تونس منفصلة عن الحقائق الإقليمية والجيوسياسية”، مضيفا أن “الدولة لم تعد تتخذ مواقف واضحة ومعلنة بشأن النقاشات الدولية الكبرى ولا تزال أصواتها في الهيئات الدولية غير مفسرة”.
وأضاف: “يمكننا أن نرى تأثير حاشية الرئيس الذي لم يتخلص من أفكار السبعينيات التي كانت سائدة آنذاك في الجامعات والتي تعتبر أن الغرب مثير للاشمئزاز العام”.
الدول العربية
وعلى المستوى العربي، يحظى سعيّد بدعم ممن يصفه بـ”الصديق”، وهو الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، حيث تُعتبر الجزائر من أكثر الدول الداعمة لسياسات الرئيس التونسي.
وفي نيسان/ أبريل الماضي، قال تبون إن “الجزائر لن تتخلى عن تونس أحب من أحب وكره من كره”، دون تسمية أي جهة ولا تفاصيل أكثر بشأن تلك “المؤامرة”.
وأثارت هذه التصريحات انتقادات المعارضة التونسية، حيث قال أحمد نجيب الشابي، رئيس جبهة الخلاص الوطني، إن “تبون يقول إن معارضي الرئيس سعيّد يبحثون عن زعزعة تونس، وهذا كلام مرفوض، ونقول له: نحن أحرص من أي أحد على استقرار بلادنا”.
وبمناسبة مشاركته في الدورة الـ32 لقمة جامعة الدول العربية في جدة في 19 أيار/ مايو الجاري، لم يلق خطاب الرئيس التونسي صدى واسعا، حيث إنه عبر عن موقف مخالف لما هو عليه الحال في العالم العربي، منتقدا محاولات إقامة نظام عالمي جديد، في الوقت الذي بدأت فيه بعض الدول العربية في تكوين تحالفات جديدة.
ولم يمنعه ذلك من التعبير عن التمنيات بالسلام وحل النزاع باستحضار ملفات ليبيا واليمن والسودان، مع ترحيبه بعودة رئيس النظام السوري بشار الأسد إلى جامعة الدول العربية، فيما كانت تونس من أول الدول العربية التي أعادت علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق.
الكاتب والمحلل السياسي منذر ثابت، اعتبر أن مشاركة سعيّد في قمة جدة كانت في اتجاه تقوية تحالفاته في سياق المحور الجزائري المصري السعودي.
وأضاف في تصريح صحفي، أن “المشاركة كانت بالأساس تهدف إلى تمتين العلاقات التي تمت صياغتها منذ 25 تموز/ يوليو 2021 تحت عنوان عدم الاصطفاف وراء الدول التي تدعم الربيع العربي وبالتحديد قطر”.
وتابع: “بلقائه مع بشار الأسد، أكد سعيّد على إجهاض الربيع العربي في التجربة التونسية على الأقل، وإن إعادة العلاقات مع سوريا كانت إحدى فصول تفكيك منظومة الربيع العربي في تصور قيس سعيّد”.
ورغم التقارب مع السعودية ومصر، فإنه لم يتحصل الرئيس التونسي على الدعم الذي كان يحتاجه، في الوقت الذي تسعى فيه حكومته لتوفير تمويلات أجنبية.
.
وبعد 25 تموز/ يوليو 2021، اعترف سعيّد بتلقي دعم أمني واقتصادي من دول وصفها بـ”الشقيقة”، قائلا إنه سيأتي الوقت المناسب ليكشف عنها وعن أدوارها.
ولدى استقباله محافظ البنك المركزي، قال سعيّد: “الحمد لله أن لدينا أشقاء صادقين يقفون معنا في كل المجالات، وخاصة في المجال الأمني والاقتصادي”.
وكانت السعودية من أولى الدول الداعمة لسعيّد في ذلك الوقت، حيث قال وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، إن بلاده تقف إلى جانب ما يدعم أمن واستقرار تونس، مؤكدًا أن المملكة ترى أن ما يجري فيها “أمر سيادي”.
في المقابل، فشلت الدبلوماسية التونسية في تحصيل الدعم السعودي رغم الوعود التي أطلقها سفير المملكة في تونس عبد العزيز الصقر.
الدول الأفريقية
وفي ظل التقارب غير المسبوق مع الجزائر، أثار سعيّد مشاكل مع المغرب بعد أن استقبل سعيّد زعيم جبهة البوليساريو في مؤتمر طوكيو الدولي للتنمية في أفريقيا (تيكاد 8) الذي نظمته تونس في العام الماضي، ما تسبب في تبادل استدعاء السفراء بين تونس والرباط.
وفي شباط/ فبراير الماضي، تحدث الرئيس التونسي خلال اجتماع عن تدفق “جحافل” من المهاجرين غير النظاميين من دول أفريقيا جنوب الصحراء، معتبرا أن ذلك مصدر “عنف وجرائم” وجزءا من “ترتيب إجرامي” يهدف إلى “تغيير التركيبة الديموغرافية لتونس”.
وتلا ذلك تصاعد في التعديات على مهاجرين أفارقة من دول جنوب الصحراء، الذين توجه العشرات منهم إلى سفارات دولهم لطلب إجلائهم من تونس.
وبعد انتقادات حقوقية ودولية، أبرزها بيان مفوضية الاتحاد الأفريقي، فإن الرئيس التونسي تراجع عن تصريحاته، مشددا على أنه “ليس عنصريا” وأن “أفريقيا لكل الأفارقة”، معلنا في الوقت ذاته عن اتخاذه عدة إجراءات لفائدة المهاجرين في بلاده، فيما قللت المنظمات الحقوقية من أهمية تلك الإجراءات.
وجاءت تلك التصريحات في الوقت الذي كان فيه رهان تونس على أن تصبح مشغلًا لمنطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية (زليكاف) وكوميسا (السوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا)، وهو ما لم يحدث بسبب تصريحات سعيّد.
في المقابل، أطلق نشطاء في دول أفريقيا جنوب الصحراء حملة لمقاطعة السلع التونسية بسبب تصريحات قيس سعيّد بشأن المهاجرين السود التي وُصفت بـ”العنصرية”.
وتأتي الحملة ضد المنتجات التونسية في الوقت الذي لا تملك فيه تونس سفراء في العديد من الدول الأفريقية بسبب حالة شغور غير مسبوقة.
وعلى سبيل المثال، تغطي السفارة التونسية في جنوب أفريقيا ليسوتو وموريشيوس وملاوي وناميبيا وبوروندي وأنغولا وزامبيا وزيمبابوي وموزمبيق وإسواتيني.
ومن أبيدجان، فإن رئيس البعثة الدبلوماسية التونسية في ساحل العاج، مسؤول أيضًا عن توغو بينما يتولى رئيس البعثة في داكار، عاصمة السنغال، إدارة شؤون التونسيين المقيمين في الرأس الأخضر وغامبيا وغينيا بيساو وغينيا.
ويشرف سفير تونس لدى نيجيريا على شؤون التونسيين في الدول المكونة للمجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا (إيكواس) وليبيريا وسيراليون وغانا وبنين. وفي المقابل، لا يوجد أي تمثيل رسمي لتونس في دولة مالي.
السفير الأمريكي السابق في تونس، غوردن غراي، قال إنه يوجد ثلاثة أمثلة تعكس تراجع الدبلوماسية التونسية منذ استيلاء الرئيس سعيّد على السلطة قبل قرابة العامين.
وأوضح في تصريح صحفي، أن تونس تسببت في نفور المغرب بشكل لا طائل منه بالتخلي عن سياستها الحيادية القائمة منذ فترة طويلة في ما يتعلق بالصحراء الغربية”.
وشدد على أن “استبداد الرئيس قيس سعيد المتزايد أدى إلى تآكل دعمها في الولايات المتحدة ما أدى إلى تخفيضات كبيرة في المساعدة الأمريكية”.
وختم بقوله إن “احتضان سعيّد لزميله المستبد بشار الأسد هو تحول كامل في الدافع الديمقراطي الذي وحد التونسيين في الإطاحة بابن علي منذ أكثر من اثني عشر عامًا”.
ويأتي تعمق الأزمة الدبلوماسية لتونس في الوقت الذي تحاول فيه حشد الدعم الدولي لها من أجل الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي، طال انتظاره لتمويل خزائن الدولة.