في ظل المحادثات الإسرائيلية السعودية: الاحتلال الإسرائيلي والمدينة المقدسة إلى اين؟
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
لم يلتفت الإعلام العربي كثيرًا إلى المفاوضات السرية الجارية بين إسرائيل والسعودية تحت رعاية أمريكية مباشرة، اللهم إلا من أخبار في النشرات المركزية الإسرائيلية، ثمّ تُرك الأمر لمراكز الأبحاث والمحللين وكاتبي أوراق “تقدير موقف” ليأخذوا دورهم في العملية التحليلية، كأساس منطقي لجعل الموضوع موضوع النخب التي عادة ما تلعب دورًا في صياغة العقل الشعبي لإعداده للحظة التطبيع السعودي الإسرائيلي.
كل مُراقب لتصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في محادثات التطبيع العربي الإسرائيلي، سيتأكد أنَّ التطبيع مع السعودية هدف وطني وقومي. وبالنسبة لإسرائيل التطبيع مع السعودية يفوق في أهميته راهنًا التطبيع مع مصر الدولة الأكبر والأكثر أهمية في معادلات الصراع العربي الإسرائيلي.
في كتابه القيم: (من مخفية إلى معروفة: العلاقات السرية الإسرائيلية مع الدول والأقليات في الشرق الأوسط بين سنوات 1948-2020)، يكتب إيلي فودة عن العلاقة مع السعودية: “من الصعوبة بمكان توصيف الخلاف بين دولتين مختلفتين دينيًا وقوميًا كما هو الحال بين إسرائيل والسعودية فيما لم يحدث بينهما أية حرب أو أعمال عدائية منذ قيام كلا الدولتين. لقد تجلى العداء بينهما في الخطاب بين القيادات حيث كشفت عن مواقف مسبقة ومتخيلة، ومع ذلك بادرت السعودية إلى مبادرتي سلام مع إسرائيل، مبادرة الملك فهد عام 1981، والملك عبد الله عام 2002. ومع ذلك كلا الدولتين تقاسمتا مصالح مشتركة في بعض اللحظات “الحلقات” التاريخية، انخراط مصر في حرب اليمن (1962-1967)، حرب لبنان الأولى عام 1982، حرب لبنان الثانية عام 2006، وحرب غزة عام 2006، واليوم التخوف “المشترك” من إيران نووية. في الوقت ذاته تخلق حلف خفي بين إسرائيل والسعودية ضد أعداء مشتركين للطرفين في منطقة الشرق الأوسط، وقد تحولت إلى علنية- أي هذا التحالف- إلى علني في السنوات الأخيرة. هذه المصالح المشتركة أفضت إلى علاقات خفية بين الدولتين ثم إلى لقاءات سرية- ص527″.
عمليًا لا يهمنا في هذه المقالة وغيرها حجم العلاقات بين البلدين، فكاتب هذه السطور يتملكه يقين أن العلاقات مع الكيانات العربية راسخة مع إسرائيل. وزراء هذه الحكومة من أحزاب الليكود والصهيونية الدينية، يدعون جهارًا نهارًا لفرض السيادة على البلدة القديمة والمسجد الأقصى برسم قانون القدس مدينة موحدة، مدنيًا، وبرسم الميراث الميكرائي عقيدةً ودينًا ويقولون ذلك علنًا دون تحفظ.
وتأتي هذه التصريحات في ظل مفاوضات سرية جادة تجري بين الدولتين ومعلومات رشحت عن موقف سعودي كشرطٍ للاستمرار في هذه المفاوضات يتعلق مباشرة بالمسجد الأقصى ومفاده باختصار، خروج كافة القوى الإسرائيلية من المسجد الأقصى، شرطةً وحرس حدود وجهات أمنية ومدنية. يبدو أنّ ردود الأفعال الرسمية المتجلية في أعضاء كنيست الذين باتوا يدنسون المسجد الأقصى يوميًا ويصدرون التصريحات ليس عبثًا بقدر ما أنه رسائل فيما يبدو تُرسلُ إلى الجهات السعودية التي يبدو أن شرطها المذكور يلاقي توافقًا أمريكيًا، وهو ما يدفع نحو مثل هذه التصريحات الصادرة عن أعضاء مؤدلجين أصلًا ومواقفهم واضحة جدًا من مستقبل المدينة المقدسة والمسجد الأقصى المبارك.
المدينة المقدسة وفي القلب منها المسجد الأقصى المُبارك في عين كل مسلم في كل بقعة من بقاع الأرض، والسعودية إذ تجري مفاوضات مع إسرائيل تحت الرعاية الأمريكية وفي ظل مشروطيات وضعتها مُسبقا كما ذكر الإعلام الإسرائيلي تتعلق بحقوق سعودية انتهكتها حكومة بايدن ومشروطيتها المسبقة اتجاه الوضع الفلسطيني، فإن المدينة المُقدسة تعودُ مجددًا لعين العاصفة العربية-الإسلامية-الفلسطينية. وقد بات واضحًا أن الفلسطينيين لن يقبلوا المساس بالمسجد الأقصى الذي استحال في العشريات الأخيرة إلى أيقونة شرعية-قومية-وطنية يستلهم منها الفلسطيني فردًا وجماعةً معطى وجوده على الأرض المباركة.
قد يعول البعض على المملكة العربية السعودية في إحداث تغيير في معادلات الصراع المتعلقة بالوضع الفلسطيني عمومًا والقدس والمسجد الأقصى خصوصًا، خاصةً وأن معادلات الصراع في المنطقة متقلبةٌ إلى درجة تحتاج إلى متابعٍ لتلكم التحولات يتعاطى مع أبسط المعلومات التي قد ترد على هوامش تعليقات صفحات التواصل الإخبارية، إذ أهمية الفعل السياسي عادة ما تكمن في التفاصيل الصغيرة التي لا يتنبه إليها كبار المحللين والمهتمين في الحراكات السياسية-الدبلوماسية.
ثمة علاقة جدلية بين السياسة والأيديولوجيا ومنظومات الأفكار في التعاطي مع الأفعال والحراكات السياسية حين تتضمنها المصالح، ومصالح الكبار في كثير من الأحيان تتغاضى متعمدة عن تفاصيل صغيرة تستحيل فيما بعد إلى قوة هادرة تقلب الموازين.
قد تكون للسعودية في ظل الظروف السياسية التي تعيشها بلدان الشرق الأوسط والتحديات التي فرضتها التحولات الجارية في المنطقة، ما بعد الربيع العربي- وهي من لعبت دورًا أساسًا في إجهاضه- ضالعة في تحريك المياه الراكدة في القدس والمسجد الأقصى، خاصة بعد فوز الرئيس أردوغان وشركائه رئاسة وبرلمانًا، ويمكن أن يلعب دورًا أساسًا ومهمًا في أحوال السياسة المتعلقة بالقدس والأقصى .
سيبقى سؤال “الأين”؟، مهمًا جدًا، في الصيرورات السياسية الجارية في المنطقة والتي تركت سابقًا وستترك لاحقًا آثارها الكبيرة على القضية الفلسطينية عمومًا والقدس والمسجد الأقصى خصوصًا. ففي منطقتنا باتت أنصاف الحلول ومواكبتها سياسيًا مسألة تأتي بالكوارث على شعوب المنطقة وقد تمَّ تجريف الواقع السني في منطقتنا ماديًا وثقافيًا ومعنويًا وحط الفقر رحاله متعمدين فرضه سياسةً ومنهجًا وترويضًا، وقد قيل إن الفقر كفر، وبعدئذ نخر الفقر شعوبنا وتشظت أجيال بين مناهج الضلالة والفسوق ومنعهم من التواصل مع دينهم يقابله تعزيز للهويات الدينية لدى الأقليات في إسرائيل. كم هي مكانة القدس والأقصى في نفوس الناس عمومًا والشباب خصوصًا؟ وكم حظيت المدينة المقدسة والأقصى من مكانة في هذه المفاوضات التي تنكر لها بعض أركان الدولتين؟ وهل فعلًا السعودية مستعدة في ظل الظروف الراهنة لتبني أولي لسياسات الملك فيصل رحمه الله في أبجديات الصراع وجدلياته الداخلية؟ وكم ستكون المقايضات بين المصالح السعودية الخاصة والقدس والأقصى والقضية الفلسطينية؟ قد تكون هذه تساؤلات معترضٌ عليها لكنها تساؤلات.