النكبة أداة للتحرير..
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
بدأت أحداث القضية الفلسطينية تُنسج في أروقة صناعة القرار الأوروبي الفرنسي النابليوني ثم البريطاني، وذلك بعيدًا عن أعين الساسة والمراقبين والعسس الدوليين برسم الصراع المعلن تارة والخفي تارة أخرى بينهما، الصراع على أعالي المحيطات كما الصحراء الأدغال وآسيا الوسطى وشبه القارة الهندية. في هذا الخضم كانت منطقة مصر والهلال الخصيب منطقة وصل بين القارات الثلاث، أفريقيا وأوروبا وآسيا وخاضعة للسلطة العثمانية التي كانت تعيش بوادر توترات داخلية تجلت لاحقًا في صراع على هويتها الإسلامية العثمانية والقومية الطورانية، ولا تزال إلى هذه اللحظات بعد تفكك الدولة العثمانية بعد عام 1917 تعيشها.
بعد سقوط الدولة العثمانية إثر الحرب العالمية الأولى، وقعت المنطقة برمتها تحت الاحتلال الأوروبي، وفي القلب منها فلسطين التي أخضعت للاحتلال البريطاني حيث تم انتدابها من قبل عصبة الأمم لتنفيذ وعد بلفور الذي أحال ونقل المسألة اليهودية من محافلها الداخلية والخاصة إلى معمعة العلاقات الدولية .
وقد كان شرط قيام إسرائيل مرهونًا بالخلاص من ساكنة فلسطين من الفلسطينيين عبر عمليات تطهير عرقي ممنهج ومبرمج، وقد وقف خلف هذه الجرائم كافة مكونات الييشوف الصهيوني، وتمت تحت عين وبصر الاحتلال البريطاني الذي مهد الأرضية لقيام إسرائيل. لم تتوقف نكبة الشعب الفلسطيني عند حد جرائم التطهير العرقي بل مضت ضمن معادلة مفادها كلما ارتفعت معدلات الضغط على الشعب الفلسطيني من قبل أجهزة الاحتلال كلما ارتفعت معدلات المواجهة التي تقابل بجرائم وتطهير عرقي (عرفَّ ايلان بابيه التطهير العرقي بناءً على ما لاحظه ودرسه في السياق الصهيوني على أنه: (جهد يرمي الى تحويل بلد مختلط عرقيًا، إلى بلد متجانس من خلال طرد جماعة من الناس وتحويلهم إلى لاجئين مع هدم للبيوت التي يتم اجلاؤهم منها. وقد يكون هناك خطة رئيسية لكن القوات المشاركة في تنفيذ التطهير العرقي لا تحتاج في معظمها إلى أوامر مباشرة فهي تعرف مسبقًا، ما المتوقع منها. وترافق العمليات مجازر، لكن حين تقع لا تكون جزءًا، من خطة الإبادة العرقية وإنما هي تكتيك أساسي لتسريع هروب السكان لمطلوب طردهم. وفي وقت لاحق يُمحى السكان المطرودون من تاريخ البلد الرسمي والشعبي ويتم استئصالهم من الذاكرة الجماعية).
لقد نفذت العصابات الصهيونية والجيش الإسرائيلي عمليات الإبادة العرقية وشارك فيها مستوى سياسي عالمي سعى لحماية هذا المنجز الذي شكل الحل النهائي اوروبيًا، للمسألة اليهودية ونقلها من الحضن الأوروبي إلى الحضن العربي والإسلامي… وعبثًا، سعت الصهيونية العالمية وإسرائيل إلى طمس القضية الفلسطينية وطمس النكبة، ودبت عبر مؤسساتها البحثية والعلمية المئات من الأبحاث والدراسات والكتب للبرهان على أنهم لم يرتكبوا تلكم المجازر ولم يسعوا بترحيل قسري للسكان.
بقي التاريخ الفلسطيني شاخصًا، محبوسًا، داخل الألسن والقلوب إلى حين تفعلت السردية الفلسطينية عبر أهم وسائل الحفاظ على ما حدث لتحقيق العودة القادمة قدرًا، وأمرًا، وكانت الرواية الشفوية الفلسطينية العين الثرَّة آلة مكنت الفلسطيني، فلسطيني ما بعد النكبة، من الاستمرار الوجداني في النكبة ومحاكاة مخيالية لفلسطين ما قبل النكبة، علمًا أن الأراشيف الكولونيالية للصهيونية ولغيرها من الكولونياليات العابرة للقارات، البريطانية، الأمريكية الفرنسية، ما يؤكد العمران الفلسطيني وجمال الأرض والإنسان عمرانيًا، وبيئيًا، وحضاريًا،، هذا فضلًا، عن الأراشيف الفلسطينية الخاصة وأراشيف آل الخالدي والسكاكيني بيانًا، لذلك.
النكبة أداة التحرير..
ثمة خصوصية للقضية الفلسطينية تُغاير الكثير من ملفات وقضايا التحرير خلاصتها أن من احتل الأرض ومارس ولا يزال الإبادة والتطهير العرقي، يقوم بذلك من منطلقات أيديولوجية دينية تدفعه للاعتقاد أن ما يفعله حق شرعي وأخلاقي ومساعٍ لإعادة حق منهوب، ويعزز هذا المعتقد مراكمات للقوة على اختلاف معانيها ومسمياتها وأنواعها وفلسفتها.
كانت ولا تزال القضية الفلسطينية التي تخلقت مستقبلًا، وراهنًا، بفعل النكبة رهينة الفكر البرجماتي العلماني الذي يراهن على النظام الدولي الذي من معالم وجوده، وجود ما بعد الحرب العالمية الثانية، وارثًا، عصبة الأمم، إنشاء إسرائيل عبر خطوات مدروسة من الأمم المُتغلبة بدأت كنتيجة لتفكيك الدول العثمانية وإعلان وعد بلفور والانتداب الأممي لبريطانيا لتنفيذ الوعد منهيًا بقرار التقسيم عام 1947 وإعلان الدولة في الخامس عشر من مايو/أيار عام 1948.
نكبة الشعب الفلسطيني لم تتوقف منذ قيام إسرائيل وإلى هذه اللحظات، بحيث يمكننا القول إنه ما دامت إسرائيل قائمة ما دامت النكبة مستمرة . ولذلك تستحيل النكبة كذات قائمة منذ أكثر من مئة عام، أي منذ احتلال بريطانيا للبلاد عام 1917 وتمهيدها البلاد لقيام إسرائيل، كأداة تحرير تبدع بوسائلها إذ تبدأ من أداة قراءة تاريخ النكبة مرتبطًا بالاستعمار العالمي من جهة وبعلمنة متعمدة للقضية الفلسطينية وتشييئها وتشتيتها والحيلولة دون إضفاء الأسلمة والإسلامية عليها طمعًا في حصر تداعياتها والمفاعيل الصادرة عنها بين مربعي القومية العربية والوطنية الفلسطينية كقاعدة بيانية هوياتية للفلسطيني إنسانًا، وحضارةً وجغرافيا سياسية. وقد نجم عن هذا العوار كما ذكرت تشييء القضية للتحول راهنًا، إلى حالة من الشرذمة الفصائلية والجغرافيا السياسية المُكرسة للشتات القائم أصلًا،، وقد ساعد على ذلك ما يتعرض له الفلسطينيون من قتل وذبح وتهجير تالٍ للتهجير الأول في دول سايكس بيكو التي تعتبر محميات طبيعية يتعلق أصل وجودها باستمرار إسرائيل وجودًا، وقبولًا، في المنطقة.
في مثل هذه الصيرورة نحتاج كفلسطينيين إلى مراكمة الوعي ليس فقط بالمسألة الفلسطينية وتاريخها، بل وبما يجري على الساحتين العربية والإسرائيلية وتفكيك مجريات الأحداث وإعادة القراءة عبر وسائل ثلاث : الفهم القدري وصيروراته، الفهم البشري وصيروراته وأخيرًا رسم المستقبل بناء على ما سلف من القراءتين: قراءة قدرية وقراءة بشرية. وبذلك نلامس العقل الصهيوني عبر رحلته وتجلياته وصيروراته من اللاهوت العلماني إلى اللاهوت الديني الخالص وفهم التحولات الجارية راهنًا، داخل المجتمع الإسرائيلي باعتباره مجتمعًا، كولونياليًا، عقائديًا، طمعًا، بالوصول إلى دولة الشريعة. بهذا الفهم المتكامل مع الوجود الفلسطيني في فلسطين التاريخية المُصنعة بريطانيًا، من جهة ووسائل المقاومة على اختلاف مُقدراتها وأدواتها ومن جهة أخرى، مترافقًا، مع هدم كوني للمعرفة الاحلالية اللاتينية المعاصرة التي قاد كِبرها الصهاينة في تعريف وتوصيف وجغرفة الإرهاب، نكون قد شرعنا في بدايات التحرير، التحرير من أواصر وآصار الفهم المقولب للنكبة، فهمًا يتعقل الثنائيات التي يرتبط بها سؤال الوجود الفلسطيني كما المستقبل الفلسطيني. إذ الصراع اليوم تبدأ ملامحه كما سبق من الوعي ونحن أحوج ما نكون إلى كي وعينا، إذ الوعي مقدمة أساس لفهم المرحلة وعدم حرقها تحت دواعي الظروف والأوضاع الإكراه السياسي القائم في منطقتنا والعالم.