كلنا نخطئ.. وما كلنا نسامح

ليلى غليون

عندما نتحدث عن الخطأ، فإننا نتحدث عن جبلة وطبيعة بشرية لا يخلو منها أحد إلا الذين اصطفاهم رب البرية عز وجل من أنبيائه المرسلين عليهم أفضل الصلاة والسلام، فعصمهم الله جل في علاه من الوقوع في الزلل والخطأ، لعظم الرسالة التي يحملونها وجليل المهمة التي ألقيت على كواهلهم في هداية البشر وإخراجهم من ظلمات الغفلة والتيه إلى نور البصيرة والرشاد.

والخطأ قد يكون في حق النفس، وقد يكون في حق الناس، وقد يكون في حق الله تبارك وتعالى، وللأسف الشديد، فإننا قد نرى الشخص يهيج ويثور ويقيم الدنيا ولا يقعدها، بل قد يُعمي الغضب والانتقام بصيرته لو أخطا أحد في حقه، ونراه لا يحرك ساكنا ولا يتمعر وجهه غضبًا إذا كان الخطأ في جنب الله تعالى، وفي أحسن الحالات قد يتغير وجهه على استحياء.

ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم كان قلبه الكبير والذي هو أوسع من هذا الكون الرحب، يسامح كل من أخطأ في حقه أو أساء إليه، وأما إذا انتهكت حرمة من محارم الله تعالى، وكان الخطأ بأمر من أمور الدين، كان الغضب يحتل وجهه وقلبه الشريفين.

فكلنا نخطئ في حق أنفسنا وفي حق غيرنا، ومن ادعى العصمة نقول له إن العصمة للأنبياء، ومن أراد العيش مع قوم مبرئين من الخطأ منزهين منه، نقول له اذهب إلى كوكب آخر لعل وعسى تجد ضالتك هناك، ولكن يقينًا لن تجدها لا هنا ولا هناك وستقضي عمرك عبثًا باحثًا.

فإذا كان الضعف والخطأ طبيعة تسري في بشريتنا، فهل نملك القدرة على العفو والتسامح أو الاعتراف بالخطأ والاعتذار؟ أم نعتبر ذلك من باب الضعف والهزيمة النفسية والمذلة والانكسار؟!

إنّ العفو عند المقدرة من أعظم الأخلاق سموًا ورفعة، إذ أن الشخص يسامح ويعفو عن الزلات ليس ضعفًا منه ولا عجزًا ولا ذلًا، بل يفعل ذلك مع قدرته على الانتقام والأخذ بالثأر ممن ظلمه أو أخطأ بحقه، فهو بذلك يمتلك قوة نفسية عظيمة تسامت عن الضعف البشري لترتقي إلى القمة السامقة من البناء النفسي القويم. يقول تعالى: “خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين”. ويقول عز من قائل: “فمن عفا وأصلح فأجره على الله”.

فالمسلم الذي تربت نفسه على مكارم الأخلاق وتزينت هذه النفس بالسماحة واللين بحيث إذا بدر من أحدهم ما يغضبه قال: هذا من عمل الشيطان وليس من عمل أخي، فتهدأ نفسه ولا تحمل على أخيه ليعيش مستريحًا هادئ البال، ينام ويصحو وهو في طمأنينة وراحة يحسده عليها ملوك الأرض.

يقول الإمام الشافعي رحمه الله:

لما عفوت ولم أحقد على أحد   أرحت نفسي من هم العداوات

فالعفو والتسامح من شيم الكرماء الأفاضل الطامعين بما عند الله تعالى، وهو خلق الأقوياء الذين ملكوا زمام نفوسهم، ومن يستطيع مقابلة الإساءة بالإحسان إلا الأقوياء ذوي النفوس الشاهقة التي تربت وتخرجت من مدرسة التسامح والعفو التي أنشأها إمام المحسنين والكرماء أبو الزهراء صلوات الله وسلامه عليه.       يقول صلى الله عليه وسلم: “لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ههنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه.) رواه مسلم.

إننا أحوج ما نكون في هذا الوقت بالذات وفي هذه المرحلة المرعبة، لترسيخ قيم التسامح والتغافر والعفو فيما بيننا، واستئصال شأفة العنف المتوحش في مجتمعاتنا، لتعود أنهار الألفة والسلامة والأمان تجري في قلوبنا وفي أحيائنا تسقي أزاهير الحب والوئام على ضفافها، وتجفف متابع العداوة والبغضاء والشحناء وسفك الدماء، لعل وعسى أن يُرفع عن مجتمعاتنا هذا البلاء الذي يكاد يخنق أنفاسها، وتتنزل عليها الرحمات والبركات لتعيش في أمان اشتاقت إليه اشتياق النفس العطشى والشفاه المتشققة للماء البارد. إن المجتمعات الآمنة الراقية ترقى برقي أهلها الذين يتعاونون على الخير والبر والتقوى، الذين يسود بينهم الحب والتسامح وقبلها الإيمان بالله عز وجل الذي نزل آيات تتلى إلى يوم الدين في ترسيخ قيم التسامح بين الناس، ورسوله صلى الله عليه والسلم الذي رسم خارطة طريق للمجتمعات الآمنة بعيدًا عن المشاحنات والأحقاد والعداوات التي تدمر الفرد قبل أن تدمر المجتمع.

فلنعف ولنسامح، ولنتجاوز عن الزلات والأخطاء، ولنطفئ نيران الفتن والشحناء فيما بيننا، فكما قال أحدهم: “النفوس الكبيرة وحدها تعرف كيف تسامح” فالعمر قصير، والزمن يمضي بسرعة، وليس للمرء بعد رحيله إلا الأثر الطيب، والعمل الصالح الذي به سيلقى وجه الله تعالى، وإذا كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء: (اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني) فالله تعالى يحب العفو، فليس من المعقول أن ندعو الله عز وجل أن يعفو عنا ونحن عاجزون أن نعفو عن بعضنا.

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: “يا ابن آدم.. إن بينك وبين الله تعالى خطايا وذنوبًا لا يعلمها إلا هو، وإنك تحب أن يغفرها لك فاغفر أنت لعباده، وإن أحببت أن يعفوها عنك فاعف أنت عن عباده، فإنما الجزاء من جنس العمل… تعفو هنا يعفو هناك، تنتقم هنا ينتقم هناك، تطالب بالحق هنا يطالب بالحق هناك”.