معركة الوعي (156) الانفجار القادم والحسم بين الرّوايتيْن
حامد اغبارية
تحمل أحداث المسجد الأقصى في الأيام الأخيرة، والتي ما تزال تتفاعل حتى لحظة قراءة هذه السطور وستتفاعل بعدها أيضا، مؤشرات كثيرة على أحداث أكبر ستحدث لاحقا، كنا قد أشرنا إليها في أكثر من مناسبة من خلال فهمنا الإسلامي لحركة التاريخ ولتراكمات الأحداث الجارية، حتى بات من الضروري والمطلوب والواجب أن نُعيد التذكير بها، ونستعيد وَعْيَنا الذي ضيّعه كثيرون في الطّريق.
إنها أحداث تتأبَّطُ في ظاهرها شرًّا مستطيرًا سينالُنا من أذاهُ الكثير، إلا أنها أحداثٌ تنطوي على خير كثير.
إن شرّها وشَرارها وأفاعيل شِرارها يتمثل بمشاهد كتلك التي رأيناها في الأقصى من اعتداءات إجرامية إرهابية نفّذتها غِربان الاحتلال السوداء قلبا وقالبًا، والتي تؤكد بما لا يدع مجالا للشكّ أن وراء المسألة مخططًا أكبر من مجرد إفراغ الأقصى من المعتكفين، وأكبر من مجرد إخلاءٍ لمسجد لكي يعيث فيه رموزُ الشرّ من سوائب المستوطنين وقطعان الضباع الفساد. فهذه خطوة أخرى نحو خطوات أكبر وأخطر يحلم الاحتلال في الوصول إليها.
أما خيرُها فيتمثل في تلك الكفّ الفلسطينية المرابطة التي لاطمت مخرز الاحتلال الأسود في فجر الأيام المشهودة. إنه خيرٌ يحمل للأمة رسالة شديدة الوضوح: طالما أن في صدورنا أنفاسًا تتردد، وقلوبًا تخفق، ودماءً تتدفق في العروق فإن الاحتلال سيرتد خائبا يجرجر أذيال الخيبة والفشل، رغم بطشه وما يملك من وسائل إرهاب وترويع. وهو خيرٌ يؤكد أن القادمَ سيكون أفضل، وأن الصحوة من الغفوة قريبةٌ، وأن الأمّة ستنهض وتفيق وتنتفض في وجه الظلم لتنتهي صفحة سوداء طال مكوثها في الأرض حتى ملّها الظلمُ ذاتُه وسئِمتها الأرض ومَن عليها وما عليها. يوما بعد يوم يهيئ الله تعالى ظروفًا وأشخاصًا وأحداثًا لتنكشف شيئا فشيئا أحلام بقايا بني إسرائيل، أو هؤلاء الذين ينسبون أنفسهم إليهم (وهو انتسابٌ يحتاج إلى فحص الحمض النووي؛ دي إن إي، لتأكيده أو نفيه) يسعون إلى تحقيق نبوءات تلمودية صنعتها أيدي الأحبار على مدار التاريخ بعد أن حرّفوا المعاني والمقاصد. ولقد كانت تلك الخارطة التي وضعها ذلك الوزير الأحمق سموطرتش، والتي تضم فلسطين التاريخية مع الأردن عبارة عن نقلة أخرى نحو انكشافات قادمة.
في التسعينات كان هناك نقاش في الإعلام حول نشرة أصدرها، عشية انتخابات الكنيست، حزب “موليدت” الذي أسسه الإرهابي رحبعام زئيفي، صاحب فكرة “الترانسفير”، تضمّنت إشارات إلى أن الحلم الأكبر هو إسرائيل الكبرى، أو ما يسمونه “مملكة إسرائيل” التي ستمتد من النيل إلى الفرات. ويومها نفى زئيفي أنه يحمل فكرة السيطرة على الأرض من النيل إلى الفرات. ورغم مواجهته في الإعلام بما ورد في نشرته الحزبية إلا أنه لف ودار كالثعلب، وتملص كابن آوى. وهو أسلوب جميع قيادات الصهيونية بكل أحزابها، بيمينها ووسطها ويسارها، وكأنهم اتفقوا جميعا على العمل بصمت والزحف ببطء، واستخدام النفي والتهرب واللف والدوران، وحرف النقاش وشن الهجوم على الطرف الآخر وتسخير الإعلام لصالح الأجندة. وقد كنت واحدًا من الذين نشروا عن هذه المسألة وناقشتُها من حيث كونها تكشف الوجه الحقيقي للصهيونية وأحلامها وأطماعها.
أستذكر هذا الموقف الآن لتأكيد نظرية الزحف البطيء وسياسة الخطوة خطوة على الأرض، وفي المقابل صد الهجوم الإعلاميّ بهجوم إعلاميّ مضاد أكثر شراسة، مع استخدام التشويش والتشويه والشيطنة والكذب والتدليس وأنصاف الحقائق والروايات الزائفة من أجل إلهاء الفضاء العام بما لا يفيد، واستنزاف الطاقات في معارك هامشية، في الوقت الذي يزحفون فيه على الأرض نحو تحقيق الهدف.
إن خارطة سموطرتش تلك ليست هي كل شيء. ورغم التراجع الظاهري، ومحاولات التخفيف من وطأة التصريحات التي تحدثت عن أن الأردن جزء من أرض إسرائيل، إلا أنهم ماضون في مخططهم الذي يحلمون في تنفيذه حتى تتحقق لهم جغرافِيّةُ مملكةِ إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، والتي تضم أرض فلسطين التاريخية والأردن وسوريا ولبنان وشبه جزيرة سيناء وصولا إلى الشاطئ الشرقي لنهر النيل وكل المنطقة الواقعة غربي نهر الفرات على طول الأرض العراقية والجهة الشمالية من شبه جزيرة العرب التي تقع اليوم ضمن أراضي العربية السعودية، في منطقة أشبه ما تكون بالنصف الشرقي من خريطة مملكة كورش الفارسية!! وتجدُ مثيلها منحوتًا على أحد وجوه عملة العشرة قروش الإسرائيلية مع رسمة الشمعدان السباعي، الذي يرمز إلى السيادة اليهودية، وبسط الهيمنة، خاصة في آخر الأيام، كما في عقيدتهم المنحرفة.
لذلك نقف هذه الأيام أمام إحدى أخطر الخطوات وأكثرها حساسية وحسمًا في طريق بقايا بني إسرائيل إلى هدفهم الأكبر. وهذا يفسّر الأحداث الجارية حاليا في المسجد الأقصى المبارك والتي هي نتيجة تراكمات أحداث سابقة ومقدمة لأحداث لاحقة. وكل هذا تمهيدا لتحقيق النبوءات التي تستعد لاستقبال “ميلخ مشيّح” الذي سيحكم الدنيا من تلك المملكة.
أمس، وعشية ما يسمى “عيد الفصح” اليهودي، كتب الرئيس الأمريكي بايدن مقالا كرر فيه التزام بلاده بحماية الشعب اليهودي، وهو التزام عقدي أكثر من كونه التزاما دافعُه مصالح سياسية أو اقتصادية أو ما شابه ذلك.
ومن المهم أنْ نعرف أنّ المسيحية الصهيونية التي يدين بها غالبية رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية وخلفهم مئات الملايين من الشعب الأمريكي وشعوب أوروبا، خاصة في بريطانيا، تلتقي (خلاصيًّا) مع الصهيونية في أن هناك نبوءة توراتية تلمودية إنجيلية تتعلق بقيام مملكة إسرائيل الكبرى التي سوف تستقبل عودة المسيح الذي سيحكم العالم من تلك المملكة. فالمسيح لن يعود – في عقيدتهم المشتركة- إلا إذا أقيمت تلك المملكة. لكن من أهم شروط قيام تلك المملكة الممتدة من النيل إلى الفرات هو بناء الهيكل الثالث الذي يسعون إلى بنائه مكان المسجد الأقصى المبارك. لذلك نراهم يجدّون ويجتهدون في السنوات الأخيرة من أجل الاقتراب أكثر من زمن بناء الهيكل الثالث المزعوم، والذي يظنون أنه به سيستعيدون مجدهم الموعود وفردوسهم المفقود.
هذه، إذًا، مرحلة مهمة من مراحل الصراع على فلسطين، بين روايتين إحداهما ضالة مضلة، قائمة على باطل وأوهام وأضاليل تاريخية وتُرّهات دينية حرّف الأحبار مقاصدها لتخدم أجنداتهم، ولو أنّهم عقلوا لما فعلوا، والأخرى رواية حقّ صادقة، قائمة على أسس تاريخية ودينية لا شك في صدقيتها.
ويبدو أن الصراع والمراغمة بين الروايتين قد استنفد طاقاته عبر قرن من الزمن مضى، وبات على بعد خطوات قليلة من الاصطدام الكونيّ الأخير بين الروايتين في مواجهة حاسمة نهائية. قد يحتاج الأمر وقتًا، ويستغرق متراكمات أحداث كتلك الجارية حاليا، لكن الاصطدام الفاصل بين الروايتين آت لا محالة.
إن بيت المقدس وفي القلب منه المسجد الأقصى الذي أسري إليه برسول الله صلى الله عليه وسلم في ربط عجيب بين منطقتين وبين مرحلتين واستشراف ما سيأتي بعد ذلك من ذلك الاصطدام الهائل، إنما يشكل الحدّ الفاصل بين حقبتين من تاريخ البشرية؛ تلك التي مضت وانتهت، وتلك التي سيحسم مستقبلُ المسجد الأقصى المبارك شكلَها ومصيرَ شعوب الأرض جميعًا. فمصيرُ الأمم قاطبة ينتهي عند حدود هذه البقعة المباركة. يعلمُ هذا قادةُ المشروع الصهيوني، ويعلمُه أحبارُهم وحاخاماتُهم، وتعلمُه روما وبيزنطة، ويعلمه الفاتيكان وتعلمه الكنيسة الأرثوذوكسية، وتعلمُه أمريكا وأوروبا وروسيا وممالكُ الأرض جميعا تعلمه. رفعت الأقلام وجفت الصحف.