أخبار رئيسيةعرب ودولي

كيف أدخلت “رأسمالية نظام السيسي” مصر في أزمة دين لا مخرج منها؟

قال الكاتب والمحلل السياسي ماجد مندور، إن مصر تمر بواحدة من أشد أزمات الديون في تاريخها، نتيجة نمط الرأسمالية الذي يتبناه نظام عبد الفتاح السيسي، والذي يتغذى على الدين ويقوم على العسكرة.

وأشار في مقال له بموقع “ميدل إيست آي” البريطاني، إلى أن، القادم على مصر أسوأ، ولا مخرج واضحا من أزمة الدين، التي تضرب البلاد، وسط توقعات بتخفيض وشيك آخر لقيمة العملة، مع استمرار شح الدولار.

وفيما يلي النص الكامل للمقال:

تمر مصر بواحدة من أشد أزمات الديون في تاريخها المعاصر. كنتيجة مباشرة لنمط الرأسمالية الذي يتبناه النظام، وهي رأسمالية تغذى على الدين وتقوم على العسكرة، خفضت قيمة الجنيه ثلاث مرات خلال العام الماضي، حتى فقد نصف قيمته في يناير / كانون الثاني، بينما وصل التضخم الأساسي إلى مستوى غير مسبوق تجاوز 40 بالمائة.

ولقد فاقم من هذا الوضع توقعات بتخفيض وشيك آخر لقيمة العملة. ومع استمرار الشح في الدولار، زاد الطين بلة وعمق من الأزمة تكدس المستوردات، مما أفضى إلى نقص حاد في الأسواق وراكم الضغوط على القطاع الخاص – رغم تأكيدات مصرية في يناير / كانون الثاني بأن مشكلة التكدس تم حلها.

وبالفعل، تشير جميع المؤشرات إلى أننا أمام أزمة طويلة المدى قد تستمر لسنين قادمة – ويبدو أن حلفاء مصر في الخليج غير مستعدين لتوفير العون بدون إصلاحات اقتصادية ضخمة، بما يمثل خروجاً عن سياستهم التقليدية تجاه النظام، وهي السياسة التي كانت تتمثل في تقديم العون تقريباً بلا شروط تذكر.

ويبدو أن برنامج الخصخصة الذي أعلنت عنه الحكومة المصرية تجاوباً مع أزمة الدين مازال متوقفاً يراوح مكانه. وقد ورد تقرير في نهاية شهر مارس / آذار يفيد بأن الحكومة علقت بيع حصة قدرها 10 بالمائة من شركة مصر للاتصالات التي تسيطر عليها الدولة بسبب أوضاع السوق غير المواتية.

سوف يكون لهذه الأزمة، بما ستبلغه من عمق وما سوف تمتد إليه من مدى، تداعيات اقتصادية وسياسية بالغة، وقد يتجاوز بعضها فترة نظام عبد الفتاح السيسي. ولسوف يكون أكثر هذه التداعيات جلاء وأعلاها تكلفةكما يقول الخبراء، هو الزيادة السريعة في معدلات الفقر، حيث يتوقع أن تتراجع ملايين أخرى من المصريين إلى ما دون مستوى خط الفقر.

من أجل إدراك الأثر المتوقع، لا يحتاج المرء سوى التأمل في التداعيات التي نجمت عن خفض قيمة العملة في عام 2016. ففي الفترة ما بين عام 2015 وعام 2018 ارتفعت معدلات الفقر من 27.8 بالمائة إلى 32.5 بالمائة، وذلك طبقاً للبيانات الصادرة عن الحكومة نفسها. وهذا يعني أن ما يقرب من خمسة ملايين أخرى من الناس تراجعوا إلى ما دون مستوى خط الفقر.

والأغلب أن عمق ومدى توسع دائرة الفقر بسبب الأزمة الحالية سيكون أسوأ بكثير، وذلك لسببين اثنين. أما الأول فهو عدم وجود تدفقات رأسمالية في مشاريع الإنشاءات الضخمة، والتي كان يمكن لها أن تخفف ولو جزئياً من الآثار المترتبة على خفض قيمة العملة.

وأما الثاني فيرجع إلى أن عمق وطول مدة خفض قيمة العملة يتوقع له أن يكون أعمق وأطول. وإذا أخذنا بالاعتبار الشح في التدفقات الرأسمالية، وما يتوقع من فجوة في التمويل الخارجي تصل إلى 19 مليار دولار في السنة المالية 2023 وتبلغ 22.5 مليار دولار في السنة المالية 2024، فسوف يستمر الجنيه في التعرض لضغط شديد، الأمر الذي سيزيد من ارتفاع تكاليف المعيشة.

انهيار السردية

ما من شك في أن تداعيات الانخفاض السريع في مستويات المعيشة والارتفاع الحاد في معدلات التضخم كبيرة ومترابطة، وأشدها على الإطلاق يتمثل في انهيار ركن رئيسي من أركان السردية القومية للنظام، ألا وهي فكرة أن النظام سوف يستعيد أمجاد مصر. يذكر أن السيسي قال ذات مرة: “سوف تكون مصر كبيرة بحجم العالم”.

وبالفعل فإن المشاريع الضخمة التي أطلقها النظام، والهيمنة الواضحة للجيش على الاقتصاد، تدور كلها حول تطلعات قومية ترنو إلى المجدوالعظمة. إلا أن الأزمة الاقتصادية جاءت لتعمل معاولها في هذه السردية، وتفتح الطريق أمام سرديات مضادة تتحدى شرعية النظام.

وما من شك في أن الانتخاب المفاجئ مؤخراً للمعارض خالدي البلشي، والذي هو الآن رئيس النقابة المستقلة للصحفيين المصريين، يسلط الضوء على الصدوع التي بدأت تظهر للعيان في الهيمنة المطلقة للنظام. معروف عن البلشي، الذي يشغل منصب رئيس تحرير موقع الدرب الإخباري – وهو واحد من الكثير من المنصات الإعلامية التي يحجبها النظام – أنه ذو ميول يسارية، ومن هنا فإن انتصاره يكتسب أهمية كبيرة.

إلا أنه لا ينبغي قراءة هذا التطور باعتباره تحولاً جوهرياً في سياسة النظام، أو باعتباره تراجعاً عن سياسة القمع التي يمارسها النظام. بل هو مؤشر على حجم الأزمة، وعلى نشوء إمكانية هز القبضة الحديدية للنظام من خلال تنازلات أصغر حجماً.

من المحتمل على المدى البعيد أن يكثف النظام قمعه للمخالفين والمعارضين. بل تجلى ذلك التوجه في الاعتقالات التي تعرض لها مؤخراً صانعو المحتوى في مواقع التواصل الاجتماعي، والذين نشروا محتوى ساخراً حول التضخم المتصاعد بشكل حاد وحول ممارسة النظام للقمع. بدون حزب حاكم مدني، وفي ظل اجتثاث المعارضة، لم يبق أمام النظام إلى جانب اللجوء إلى القمع سوى خيارات قليلة لمواجهة المعارضة.

بتعبيرات أبسط، لا يملك النظام الأدوات اللازمة لاحتواء السخط الشعبي ولا الكيفية التي تمكنه من إطفاء جذوته. بل ينذر ما يلوح في الأفق من تزايد فيوتيرة عنف الدولة بخطر مستطير، إذ أن ذلك من شأنه أن يعمق أكثر فأكثر من أزمة حقوق الإنسان في البلد. ويحتمل أن نشاهد مزيداً من العسكرة في النظام السياسي كوسيلة للتعامل مع الأزمة المتفاقمة.

عقبات كؤود

يرى الخبراء أن أعمق آثار الأزمة وأطولها مدى هو زيادة مديونية الاقتصاد المصري والعقبات الكؤود في طريق التنمية التي سوف تواجهها أي حكومة تأتي في المستقبل. فمما لا شك فيه أن معظم موارد البلد على المدي المنظور لا مفر من أن تكرس لسداد ما راكمه النظام من ديون.

وهذا يعني تقليصاً كبيراً في الاستثمارات في القطاعات الخدمية، في الرعاية الاجتماعية والصحة والتعليم – وهي جميعها من مستلزمات وجود قوة عاملة منتجة. كما سينجم عن ذلك نضوب رأس المال في البلد، الأمر الذي سيحول دون تطور قطاع خاص حيوي ومنافس، وتبعاً لذلك سوف تتوقف قدرة مصر على التنمية لمدة زمنية طويلة.

من غير المحتمل أن تنكسر دورة الدين إذا كان النظام يخطط لاقتراض 44 مليار دولار من السوق المحلية في الربع الثاني من السنة المالية الحاليةحتى يتسنى له ضبط الميزانية. وحتى لو تمكن النظام من سد الثغرة المالية الكبيرة خلال العامين القادمين، فسوف لن يتمكن من إنجاز ذلك إلا من خلال اقتراض المزيد من المال بتكاليف تمويلية باهظة جداً.

أصدرت الحكومة المصرية في فبراير / شباط ما قيمته 1.5 مليار دولار من السندات الإسلامية، التي تعرف باسم صكوك، بمعدل فائدة فاحش يصل إلى 11 بالمائة. والغاية من ذلك هي مساعدة مصر على سداد 1.25 مليار دولار من السندات الأوروبية خلال خمس سنين، صدرت بمعدلات فائدة ثابتة قدرها 5.6 بالمائة، الأمر الذي يزيد من الضغط على الميزانية.

وبذلك سوف يستمر سداد الديون في امتصاص الموارد الاقتصادية على المدى المنظور، بما يترك مصر عرضة للافتراس من قبل رؤوس الأموال الدولية والتقلبات العالمية. سوف تكون لأزمة الائتمان تداعيات مدمرة على الاقتصاد المصري، وقد يدفع ذلك بالبلد نحو حافة الإعسار والتخلف عن سداد أقساط الديون.

في نهاية المطاف، ما نشاهده هو تحول جوهري في الاقتصاد السياسي المصري سوف تتجاوز آثاره عهد السيسي ونظامه، ولربما كان ذلك هو الإرث الذي سيخلفه من بعده ولفترة طويلة قادمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى