الإمام الشافعي.. عاداه دعاة “التنوير” وظلمته الدراما
عرف بالعدل والذكاء والورع والسخاء، ثالث الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، ومؤسس علم أصول الفقه، وإمام في علم التفسير وعلم الحديث، كما أنه عمل قاضيا.
عالم فصيح وشاعر ورحالة أكثر العلماء من الثناء عليه، وأُذن له بالفتيا وهو دون الـ20 عاما.
اتفق رأي الجمهرة الكبرى من مؤرخي الفقهاء وكاتبي طبقاتهم أن محمد بن إدريس الشافعي ولد بعسقلان غزة بفلسطين عام 150 هجرية – 767 ميلادية.
يجتمع مع الرسول الكريم في عبد مناف بن قصي، وقيل هو ابن عم النبي وهو ممن تحرم عليه الصدقة من ذوي القربى الذين لهم سهم مفروض في الخُمس، وهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب.
هاجر أبوه القرشي المطلبي من مكة إلى غزة بحثا عن الرزق، ومات أبوه وهو صغير فانتقلت به أمه إلى مكة وعمره سنتان خشية أن يضيع نسبه الشريف، ليقيم بين ذويه، ويتثقف بثقافتهم، ويعيش بينهم، ويكون منهم.
عاش عيشة اليتامى الفقراء، وحفظ الشافعي القرآن الكريم وهو ابن سبع سنين، وحفظ “الموطأ” لمالك وهو ابن 10 سنين، ثم أخذ يطلب العلم في مكة مستمعا إلى المحدثين، فيحفظ الحديث بالسمع، ثم يكتبه على الخزف أو الجلود وغيرها.
إضافة إلى حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية، اتجه الشافعي إلى اللغة العربية، فخرج في سبيل هذا إلى البادية، ولازم قبيلة هذيل، ولقد بلغ من حفظه لأشعار الهذليين وأخبارهم أن الأصمعي قال: “صححت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس”.
هاجر الشافعي إلى المدينة المنورة طلبا للعلم عند الإمام مالك بن أنس، فلما رآه مالك قال له: “يا محمد اتق الله، واجتنب المعاصي، فإنه سيكون لك شأن من الشأن، إن الله قد ألقى على قلبك نورا، فلا تطفئه بالمعصية”.
ثم قال له: “إذا ما جاء الغد تجيء ويجيء ما يقرأ لك”. يقول الشافعي: “فغدوت عليه وابتدأت أن أقرأ ظاهرا، والكتاب (الموطأ) في يدي، فكلما تهيبت مالكا وأردت أن أقطع، أعجبه حسن قراءتي وإعرابي، فيقول: يا فتى زد “.
ثم ارتحل إلى اليمن وعمل فيها، ثم إلى بغداد طلبا للعلم عند القاضي محمد بن الحسن الشيباني، وأخذ يدرس المذهب الحنفي، وبذلك اجتمع له فقه الحجاز (المذهب المالكي) وفقه العراق (المذهب الحنفي).
واصل الشافعي ترحاله طلبا للعلم فعاد إلى مكة وأقام فيها وأخذ يلقي دروسه في الحرم المكي، والتقى أكبر العلماء في موسم الحج، واستمعوا إليه، وفي هذا الوقت التقى به أحمد بن حنبل، وقد أخذت شخصية الشافعي تظهر بفقه جديد، لا هو فقه أهل المدينة وحدهم، ولا فقه أهل العراق وحدهم، بل هو مزيج منهما.
ثم سافر إلى بغداد للمرة الثانية، وقام بتأليف كتاب “الرسالة” الذي وضع فيه الأساس لعلم أصول الفقه، وشرائط الاستدلال بالقرآن والسنة والإجماع والقياس وبيان الناسخ والمنسوخ ومراتب العموم والخصوص.
وأخذ الشافعي ينشر بالعراق تلك الطريقة الجديدةَ التي استنها، ويجادل على أساسها، وينقد مسائل العلم على أصولها، ويؤلف الكتب وينشر الرسائل، ويتخرج عليه رجال الفقه.
ومن ضمن الروايات أنه وجد نفسه مضطرا لمغادرة بغداد ولم يكن لمصر في ذلك الوقت مكانة علمية كمكانة بغداد، ويعود السبب في ذلك إلى أن خلفاء الدولة العباسية أدنوا إليهم المعتزلة، والشافعي كان ينفر من المعتزلة ومناهج بحثهم، فما كان لمثل الشافعي أن يرضى بالمقام في ظلهم.
وفي مصر أعاد الشافعي تصنيف كتاب “الرسالة” الذي كتبه للمرة الأولى في بغداد، كما أنه أخذ ينشر مذهبه الجديد، ويجادل مخالفيه، ويعلم طلابه العلم.
وجد الشافعي أن أصحاب المذهب المالكي يتعصبون بشدة للإمام مالك ويقدمونه في الفقه على الحديث، فدعاه ذلك إلى تصنيف الكتاب في اختلافه معه. ثم ألف الشافعي كتابا يرد به على الإمام مالك وفقهه، فغضب منه المالكيون بسبب الكتاب وأخذوا يحاربون الشافعي.
تعرض الشافعي في حياته لأمراض كثيرة منها (البواسير) الذي كان سببا لنزف الدم منه في كثير من الأحيان، وعرضه هذا المرض ذات مرة لنزيف شديد قضى عليه حتى توفي في مصر سنة 204 هـجرية – 820 ميلادية.
ولا يزال ضريحه في القاهرة بجوار مسجد الإمام الشافعي، ويعد من أعظم مباني العصور الوسطى بعد أن شيده السلطان الكامل الأيوبي.
ولما أخذت ريح التقليد تهب بعد أن اختار المجتهدون طريقة بعض الأئمة في الاجتهاد، ثم صار أهل الإقليم يقلدون إماما، ويختارون مذهبه، كان المذهب الشافعي قد استقر في مصر، واستقام أهلها على طريقته، وقدموه على المذهب المالكي الذي كان غالبا، والمذهب الحنفي الذي كان معروفا، لذلك كانت مصر المكان الذي صدر عنه المذهب الشافعي.
وانتشر المذهب الشافعي فظهر في العراق، وغلب على كثير من بلاد خراسان والشام واليمن، ودخل ما وراء النهر، وبلاد فارس والحجاز وتهامة، وبعض بلاد الهند، وتسرب إلى بعض شمال أفريقيا، والأندلس.
لقد شغل الشافعي الناس بعلمه وعقله، شغلهم في بغداد وقد نازل أهل الرأي، وشغلهم في مكة وقد ابتدأ يخرج عليهم بفقه جديد يتجه إلى الكليات بدل الجزئيات، والأصول بدل الفروع، وشغلهم في بغداد وقد أخذ يدرس خلافات الفقهاء وخلافات بعض الصحابة على أصوله التي اهتدى إليها.
أوتي علم اللغة العربية، وأوتي علم الكتاب، وقال بعض تلاميذه: “كان الشافعي إذا أخذ في التفسير كأنه شاهد التنزيل”، وأوتي علم الحديث، فحفظ “موطأ مالك”، وضبط قواعد السنة وفهم مراميها والاستشهاد بها، ومعرفة الناسخ والمنسوخ منها، وأوتي فقه الرأي والقياس، ووضع ضوابط القياس والموازين، لمعرفة صحيحه وسقيمه.
اختصر الإمام أحمد بن حنبل، وهو تلميذ الشافعي دور الشافعي العلمي فقال: “ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة رجلا يقيم لها أمر دينها، فكان عمر بن عبدالعزيز على رأس المائة، وأرجو أن يكون الشافعي على رأس المائة الأخرى”.
قال عنه المفكر محمد عابد الجابري: :الشيء الذي لا يقبل المناقشة هو أن الشافعي كان بالفعل المشرع الأكبر للعقل العربي”. ومع ذلك فإنه لم يسلم الشافعي من عداوة منظري “الحداثة” و”التنوير” المعاصرين أمثال محمد أركون ومحمد شحرور ونصر حامد أبو زيد وجورج طرابيشي وزكريا أوزون، لأن هدمهم لعلم الشافعي يعني هدم جميع العلوم الشرعية.
ونظرا لقيمته في الفكر والتاريخ الإسلامي فقد قدمت عن حياته ثلاثة مسلسلات تلفزيونية عربية كاملة إضافة على بعض من حياته في أعمال درامية أخرى. والمسلسل الأخير “رسالة الأمام” تعرض لانتقادات كثيرة بسبب أخطاء تاريخية لم يجر تدقيقها بشكل مناسب واستمد بعضها من صفحات “الإنترنت” غير الموثوقة.
رحل وهو يحض على طلب العلم والتعلم، لذلك فإنه كان من يلتقي به من العلماء يرى فيه عالما هو نسيج وحده.