في حلقة جديدة من برنامج “مال وأعمال” مع الدكتور أنس سليمان أحمد اغبارية، تحدث عن شهر رمضان المبارك كفرصة لتهذيب النفوس والاقتصاد. ويبثّ البرنامج كل أربعاء على قناة “موطني 48” عبر منصة “يوتيوب”.
وتمحورت الحلقة حول “البعد الاقتصادي فيما يتعلق بشهر رمضان، وهو ضبط النسب بين الاستهلاك والإنتاج”.
يقول د. أنس: “عُرفت لشهر رمضان صورتان: الأولى هي تلك التي ترسمها مجموعة الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الواردة حول الشهر الكريم وصيامه، وهي في مجملها تجعل من رمضان مناسبة للتدرب على التحكم في النفس، وضبط نظام الحياة الشخصية، وتوجيه هذه الحياة وجهة تقلل من المساحة المتاحة للبدن واحتياجاته، في تعاون بين الجوارح والنفس يسعى إلى كسر سلطان العادة الشديد في حياة الإنسان عموما. أما الصورة الثانية لشهر رمضان وصيامه، فهي صورته في الواقع المريض الذي نحياه، حيث تراكمت عليه عادات وتقاليد من الداخل والخارج حوّلت الشهر الفضيل إلى مناسبة احتفالية شبيهة كلها بالعيد، لا مناسبة للعبادة تُختَم باحتفالية العيد”.
وأضاف: “فبدلا من تحرير الإنسان من أحكام العادة القاسية خلال شهر في السنة، أُثقل الموسم الكبير بعادات أخرى أشد وطأة من العادات المرتبطة بعموم حياتنا. وبدلا من أن يكون رمضان موسما لتنقية النَّهْر كله، إذا به يصبح موسما لمزيد من الأعباء المادية والمعنوية التي تهدد الحياة حتى في عناصر سلامتها الأساسية. شهر رمضان إذن هو شهر الاقتصاد بامتياز، والشرط هو العودة إلى الصورة الأصلية لأداء الفريضة، ووضعها في الموضع الذي اختاره لها الدين الحنيف، أداةَ تهذيب وتربية للنفس على الاكتفاء بالقليل من حاجة الجسم”.
وأردف: “ويجب أن نلاحظ أن المعونة التي يقدمها شهر رمضان للحياة الاقتصادية لا تتعلق فقط بالأعمال التي يمارسها الصائم، ولكن تتصل قبل ذلك بالمبادئ التي يؤكد عليها الصوم ويغرسها في القائمين بالفريضة، من قبيل عدم التبعية للمادة، والتوازن في طلب المنافع، وإشراك المجتمع في بعض ما نملك من منافع الحياة. والقاعدة التي يقوم عليها فهم شهر رمضان ، هي أنه في أصله شهر للتغيير والتجديد، ومهمته تشبه مهمة الحج، الفريضة الأصعب والأكثر كلفة، أن يرجع الحاج أو الصائم من فريضته مغفورا له: من حج فلم يرفث ولم يفسق.. وحديث: ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا..)، لكن هل يلزم أن يكون هذا التغيير الذي يستهدفه شهر رمضان بالزيادة؟”.
يجيب د. أنس سليمان “نعم يجب أن يكون التغيير بالزيادة، ولكن في الجوانب التي تخدم هدف الصيام فقط، مع التخفف أو التقلل مما يعوق تحقيق هذا الهدف. ورغم ضرورة توفير حد من الطعام والشراب لا يقوم الجسد بدونه، فإن الزيادة على هذا كلما كانت أكثر عاقت صاحب هذا الجسد أكثر عن تحقيق هدفه من الصيام، وربما الحياة برمتها. وهناك أسس رمضانية تساعد مراعاتها على تحويل شهر رمضان إلى ربيع اقتصادي، بدلا من أن يكون كابوسا مخيفا لاقتصاد البيوت في مجتمعنا كما هو حاصل الآن”.
وقال: “أهم هذه الأسس: أولا: معضلة الاقتصاد كما يراها المختصون هي أن المواد اللازمة لحياة الناس قليلة أو نادرة في العادة، فما الذي ننتجه وما الذي لا ننتجه؟ والحق أن شهر رمضان بشعائره وأعماله يربط المسألة بالضرورات والحاجيات والكماليات البشرية، فيفتح المجال لطلب الضرورات بكمها المناسب، والحاجيات بما يرفع الحرج عن العباد، والكماليات بما يروِّح عن النفس أحيانا، وما زاد فهو إسراف لا ينبغي. ومن هنا فإن الذي يحكم على الاستهلاك الفردي أو الأسري ليس مقدار الدخل في الأساس، ولكن الحاجة والضرورة التي تلزم لبقاء الإنسان ورفع الحرج عنه.
ثانيا: أذواق المستهلكين تأتي في مقدمة المحددات على الطلب في السوق، فإذا علمنا أن المقصود من فرض الصيام ليس أن يجمع الصائم الوجبات الثلاث في وجبة أو وجبتين، أو أن يعوض في المساء ما فاته من طعام الصباح، ولكنْ أنْ يأكل بالمعدل العادي للوجبة في غير رمضان على أقصى حد، مما يعني أننا نقلل نحو الثلث من طعامنا في رمضان قياسا إلى أشهر السنة الأخرى. إذا علمنا هذا كله، عرفنا أن شهر رمضان يسهم في ضبط الذوق الاستهلاكي، ولا يتركه فريسة للأهواء”.
وأضاف: “وهنا نلاحظ أن شهر رمضان صار في زماننا فرصة لدى التجار لرفع أسعار كثير من السلع بدون أي داع، إلا زيادة الطلب عليها من قبل المستهلكين المنساقين وراء أذواق غير محسوبة، بل قد يكون المعروض من السلع كثيرا جدا، إلا أن العرض نفسه يكون قليل التأثير في خفض ثمن السلعة مقابل الطلب الكبير جدا عليها. والأصل هو أن شهر رمضان مناسبة طيبة لضبط الأسعار على الأقل، وربما لخفضها، وذلك بضبط الإقبال على الاستهلاك، وعدم خزن السلع في البيوت بكميات أكثر من حاجة يوم أو يومين.
ثالثا: زيادة الاستهلاك عن المعدلات المعقولة وبدون تغيير قاعدة الإنتاج بصورة مناسبة يمثل كارثة اقتصادية، ونتعلم من شهر رمضان أن الاعتدال أو التقليل من الطعام لا ضرر فيه ما دام طعامنا محتويا على نسبة ملائمة من عناصره الأساسية، وأما الزيادة فيه فهي محققة الضرر صحيا واقتصاديا. ولولا ذلك، أي عدم وجود مضرة من تقليل الطعام بالصيام، ما افترض الله علينا هذه الفريضة، والقاعدة القرآنية المذكورة في سياق آيات الصيام تقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} فليس ممكنا أن يكون مراد الشارع بالعباد هو اليسر، ثم يكلفهم بما فيه ضررهم. رابعا: ينبغي أن لا نخص رمضان- قدر الطاقة- بأطعمة لا نأكلها إلا فيه، بل نأكل فيه ما نأكله في سائر العام، إذ إن هذا التخصيص من أكبر أبواب الفقد أو النَّزْف الاقتصادي والصحي. فمن وصايا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في مجال الإنفاق يقول: (نحن قومٌ لا نَأكلُ حتَّى نَجُوعَ وإَذَا أَكَلْنا لا نَشْبَع). وقد حث عمر بن الخطاب ابنه عبد الله (رضي الله عنهما) ذات يوم فسأله: إلى أين أنت ذاهب؟ فقال: لأشتري لحما اشتهيته، فقال له الفاروق: (أكلما اشتهيت شيئا اشتريته). ويجب على المسلم أن يلتزم بهذا الضابط في إنفاقه، فلا يجب أن تجرفه السعة في الرزق بعد الضيق أو التقليد الأعمى للعادات السيئة إلى الإسراف، وتشير بعض الدراسات التي أجريت أن 45% من الوجبات التي يتم إعدادها في رمضان تذهب إلى صناديق القمامة، وتشير الإحصاءات إلى أن الاستهلاك في (شهر الصوم) يرتفع بنسبة تتراوح بين 25 – 40% عنه على مدار السنة”.
وأكمل د. أنس: “إذن رمضان محاولة لصياغة نمط استهلاكي رشيد وعملية تدريب مكثّفة تستغرق شهرا واحدا، إنه بحق بمثابة دورة تدريبية تُفهم الإنسان أنه بالإمكان أن يعيش بإلغاء الاستهلاك المفرط من خلال ضبط النفس ومقامة الإسراف. فالإسراف في كل شيء ممقوت حتى مع السعة؛ فقد جاء التوجيه النبوي لمن أراد الوضوء بعدم الإسراف في الماء ولو كان على نهر جار. ومن وصايا الرسول الكريم في مجال الإنفاق أيضا: (ما عال من اقتصد). إنها حكمة اقتصادية خالدة وقاعدة استهلاكية رشيدة. ولا بد من التذكير، أنه ووفقًا للدراسات الاقتصادية فإن %81 من الأسر يدخلون في مشكلات مالية بسبب عدم تجديد الاولويات المالية. فابرز واهم سبب في مشاكل الاسرة ماليا، هو عدم اتفاقهم على ما هي الأولويات، وما هي الاهداف المالية. والعمل على الاولويات تتم من خلال اجتماع الزوج والزوجة واذا كان الاولاد في عمر 10 سنوات وما فوق من المفترض ان يشاركوا في عملية التخطيط المالي، حتى تكون مسؤولية الإنفاق مسؤوليـة مشتـركة بينهــم جميعًا”.
وختم د. انس سليمان أحمد بالقول: “إن عصرنا الحاضر، وقد غلبت عليه نزعة مادية جارفة، وأصبح الجميع يلهث وراء ما يشبع رغباته، ويرضي تطلعاته التي زينها له عصر الاستهلاك، فيأتي شهر رمضان ليفتح للمسلم صفحة جديدة، يملأها بالعبادة الزاهدة، ويحيي لياليها بالصلاة والذكر، لكي يهيئهم لمواجهة تحديات باقي شهور السنة.هذه بعض النقاط العامة المهمة علنا نتوسع في بعضها في حلقات مقبلة بإذن الله”.