ملامح “حرب باردة” جديدة بين واشنطن وموسكو في أفريقيا
نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريرا للصحفي ديكلان والش، قال فيه إن التنافس بين روسيا والغرب في أفريقيا يتصاعد بسرعة، مدفوعا بالبنادق والذهب ووسائل التواصل الاجتماعي.
وأشار التقرير إلى أن أحدث بؤرة توتر هي تشاد، وهي دولة صحراوية مترامية الأطراف تقع على مفترق طرق القارة، وهي الآن هدف مهم للجهود الروسية المتزايدة.
وحذرت الولايات المتحدة رئيس تشاد مؤخرا من أن مرتزقة روس يخططون لقتله هو وثلاثة من كبار مساعديه وأن موسكو تدعم المتمردين التشاديين المحتشدين في جمهورية أفريقيا الوسطى المجاورة.
في الوقت نفسه، تغازل موسكو المتعاطفين داخل النخبة الحاكمة في تشاد، بما فيهم الوزراء والأخ غير الشقيق للرئيس.
ورأى الكاتب أن قرار الحكومة الأمريكية بمشاركة معلومات استخباراتية حساسة مع رئيس دولة أفريقية، يكشف عن إحدى الطرق التي تتحرك بها إدارة بايدن بشكل أكثر حزما في أفريقيا وتستخدم تكتيكات جديدة لإحباط المكاسب الروسية في القارة.
ولفت إلى أن الولايات المتحدة تكرر ما فعلته في أوكرانيا، حيث استخدمت معلومات سرية لفضح الخطط العسكرية الروسية واستباق ما تقول إنها خطط صينية لتزويد روسيا بأسلحة جديدة.
واعتبر أن النهج الأمريكي الأكثر قوة في أفريقيا يهدف جزئيا إلى تعزيز الموقف المتدهور لفرنسا، التي فسحت المجال في السنوات الأخيرة لروسيا في المستعمرات السابقة مثل مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى.
وأضاف: “الآن تتطلع روسيا إلى الإطاحة بالمزيد من قطع الدومينو الفرنسية في وسط وغرب أفريقيا، والولايات المتحدة ترد على ذلك”.
وقال مسؤول أمريكي للصحيفة (لم تسمه)، إن مؤامرة الاغتيال في تشاد تمثل “فصلا جديدا” في جهود فاغنر، القوة العسكرية الخاصة المدعومة من الكرملين، من أجل دفع المصالح الروسية في أفريقيا.
ونبه التقرير إلى أن يفغيني بريغوزين، الذي يقود فاغنر، أسس موطئ قدم في البلدان الأفريقية الضعيفة من خلال إرسال مقاتليه لدعم الحكام الاستبداديين المترنحين، عادة مقابل مدفوعات، أو تراخيص لاستخراج الماس أو الذهب.
وتشير المؤامرة في تشاد إلى أنه مستعد الآن للإطاحة بالزعماء الذين يقفون في طريقه.
وقال المسؤول الأمريكي إن هذا التغيير دفع الولايات المتحدة إلى تبني المزيد من الإجراءات الإيجابية، مثل تلك المستخدمة في أوكرانيا، والتي تهدف إلى “إبطاء، وكبح، وتقييد، وعكس اتجاه” توسع بريغوزين في أفريقيا.
زيارات أمريكية
وأجرى مسؤولو الولايات المتحدة زيارات متعددة للدول الأفريقية خلال الأشهر الماضية، كان آخرها لوزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى النيجر، تعهد خلالها بتقديم 150 مليون دولار كمساعدات لمنطقة الساحل.
وتعتبر زيارة بلينكن الرابعة لأفريقيا من قبل شخصية أمريكية بارزة هذا العام، حيث سبقه في الزيارة وزيرة الخزانة جانيت ييلين والسفيرة لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، والسيدة الأولى جيل بايدن، كما ستبدأ نائبة الرئيس كامالا هاريس رحلة إلى غانا وتنزانيا وزامبيا هذا الشهر، وقد وعد الرئيس بايدن بزيارة أفريقيا في وقت لاحق من هذا العام.
وبحسب التقرير، فإنه بالنسبة للكثيرين في أفريقيا وخارجها، فإن التنافس المتصاعد بين القوى العظمى يشبه الحرب الباردة، عندما دعمت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي القادة الأفارقة المتنافسين، بما فيهم الطغاة. إنها مقارنة تريد إدارة بايدن بشدة تجنبها لأن استراتيجيتها في أفريقيا، التي أعلنها بلينكين في ضجة كبيرة في جنوب أفريقيا العام الماضي، تقدم البلدان الأفريقية كشركاء مهمين، وليس كبيادق في التنافس العالمي.
من جانبهم، أوضح القادة الأفارقة أنهم لا يريدون أن يجبروا على الانحياز إلى أحد الجانبين.
قال ماكي سال، رئيس الاتحاد الأفريقي، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر: “لقد عانت أفريقيا بما فيه الكفاية من عبء التاريخ. ولا تريدها أن تكون أرضا خصبة لحرب باردة جديدة”.
تعود العلاقات الروسية في أفريقيا إلى الحقبة السوفييتية، عندما دعمت موسكو الحكومات المتعاطفة وحركات الاستقلال، واستمرت في السنوات الأخيرة حيث أصبحت روسيا أكبر مورد للأسلحة في القارة.
لكن آخر مساعيها للتأثير بدأت بشكل جدي منذ حوالي خمس سنوات، عندما بدأ مرتزقة فاغنر بقيادة بريغوزين – كثير منهم من الروس ولكن أيضا من السوريين والصرب واللبنانيين – بالظهور في بعض أكثر الزوايا اضطرابا في القارة.
وردا على الأسئلة، قال بريغوزين في بيان: “لا علاقة لنا بالمتمردين التشاديين أو حميدتي”، وهو لقب لنائب رئيس السودان، الجنرال محمد حمدان، الذي يتمتع أيضا بنفوذ في تشاد.
يمتد الجهد الروسي عبر القارة، ولكن كان له أكبر الأثر في منطقة الساحل، المنطقة شبه القاحلة المتاخمة للصحراء. ويقاتل مقاتلو فاغنر المتمردين الإسلاميين في مالي، وهم حراس شخصيون لرئيس جمهورية أفريقيا الوسطى ويقومون باستخراج الذهب في العديد من البلدان، بما في ذلك السودان.
ودفع وصول المرتزقة الروس الجيش الفرنسي إلى الانسحاب من عدة دول. في تشرين الثاني/ نوفمبر، أنهت فرنسا رسميا عملية برخان، حملتها العسكرية التي استمرت ثماني سنوات ضد المتمردين الإسلاميين في منطقة الساحل، والتي شملت في ذروتها قوات من خمس دول أفريقية.
لم تضعف الحرب في أوكرانيا توغل روسيا في أفريقيا. ويقول المسؤولون الأمريكيون إن فاغنر حافظت على ما بين 3500 و4500 فرد في القارة، حتى مع قيام المجموعة أيضا بإلقاء القوات ومجندي السجون في “الرحى” في أطول المعارك الأوكرانية وأكثرها وحشية.
وبدلا من التراجع، فإن روسيا تبحث عن موطئ قدم جديد في أفريقيا.
في زيارة لمالي مؤخرا، ذكر وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، غينيا وبوركينا فاسو وتشاد في خطاب ألقاه على أنها دول كانت روسيا تأمل في استخدام مكافحة الإرهاب لتدخل من الباب. واكتشف المسؤولون الأمريكيون علامات على روابط فاغنر جديدة في أريتريا، ما يشير إلى رغبة في مجال نفوذ من الساحل إلى الساحل من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر.
وزار لافروف سبع دول أفريقية هذا العام، في محاولة للاستفادة من التناقض بشأن الحرب في أوكرانيا والاعتراف علانية بعلاقة روسيا مع فاغنر. بينما أدانت 30 دولة أفريقية العدوان الروسي في تصويت حديث في الأمم المتحدة، واختارت 22 دولة عدم القيام بذلك.
وحصلت روسيا أيضا على شريك قوي في الجنرال حمدان من السودان، الذي تلقت قواته شبه العسكرية الأسلحة والتدريب من فاغنر، والذي يسافر على نطاق واسع في جميع أنحاء المنطقة. في الأسبوع الماضي، سافر إلى أريتريا، إحدى الدول القليلة التي تصوت باستمرار لصالح روسيا في الأمم المتحدة.
ويحذر الخبراء من المبالغة في تقدير تأثير غزوات روسيا على أفريقيا. والدول التي تعمل فيها موسكو هي من بين أفقر دول العالم، وعلى الأرض، غالبا ما تبدو جهودها مبعثرة، ضعيفة الموارد وتحفزها الرغبة في إثارة غضب الغرب.
وقالت ميشيل غافين، الخبيرة في شؤون أفريقيا في مجلس العلاقات الخارجية، إن روسيا من غير المرجح أن تفي في نهاية المطاف بالوعود الأمنية الكبرى التي قطعتها للدول الأفريقية.
لكن على المدى القصير، أثبتت أفعالها أنها معطلة للغاية، وتكافح القوى الغربية للعثور على رد.
في دولة بوركينا فاسو الواقعة في غرب أفريقيا، بعد فترة وجيزة من استيلاء النقيب إبراهيم تراوري، ضابط الجيش الشاب، على السلطة في انقلاب الخريف الماضي، ظهرت فيكتوريا نولاند، وهي مسؤولة كبيرة في وزارة الخارجية، لحث تراوري بشدة على عدم اللجوء إلى فاغنر لطلب المساعدة، بحسب مسؤول كبير بوزارة الخارجية الأمريكية.
في كانون الثاني/ يناير، غادرت آخر القوات الفرنسية بوركينا فاسو، بأوامر من النقيب تراوري، ما أثار تكهنات بأنه سيتم استتخلافهم بالروس.
لكن مؤامرة الاغتيال في تشاد، التي أوردتها صحيفة “وول ستريت جورنال” لأول مرة، هي التي دفعت الجهود الأمريكية إلى مستوى جديد.
تشاد التي هي أكبر مساحة من بريطانيا وفرنسا وألمانيا مجتمعة، كانت حليف فرنسا الرئيسي لعقود من الزمن، استخدمها الجيش الفرنسي للتدريب وكمركز للعمليات.
ووصل الزعيم الحالي لتشاد، محمد إدريس ديبي، إلى السلطة في عام 2021 بعد مقتل والده، الزعيم التشادي الاستبدادي لمدة ثلاثة عقود، في معركة مع المتمردين. ظل ديبي قريبا من فرنسا، لكن التحالف تعرض للاهتزاز بسبب حملة قمع وحشية ضد المحتجين من أجل الديمقراطية في تشرين الأول/ أكتوبر، والتي خلفت 128 قتيلا، وفقا لهيئة حقوق الإنسان الوطنية في تشاد.
الآن، يبدو أن بعض أعضاء الدائرة الداخلية للسيد ديبي يميلون نحو روسيا.
وقال مسؤول تشادي رفيع المستوى تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته إن سعيد، الأخ غير الشقيق لمحمد ديبي، الرئيس السابق لشركة الطاقة الحكومية في تشاد، زار موسكو ثلاث مرات في العام الماضي، واجتمع مرة واحدة على الأقل مع بريغوزين. في صفحته الشخصية على فيسبوك، يظهر سعيد ديبي وهو يقف خارج الكرملين.
في كانون الثاني/ يناير، نفت روسيا الاتهامات بأن فاغنر كانت تسعى للإطاحة بالرئيس، وأعلنت أن ديبي يعتزم حضور القمة الروسية الأفريقية الثانية في تموز/ يوليو، والتي يستضيفها بوتين.
بعد حوالي أربعة أسابيع، قدم المسؤولون الأمريكيون للرئيس ديبي أدلة رفعت عنها السرية على خطط فاغنر لاغتياله، على حد قول المسؤول التشادي. وأضاف أن على قائمة الاستهداف رئيس أركان ديبي ووزير دولة ورئيس الحرس الرئاسي.
ولم يرد سعيد ديبي والمتحدث باسم رئيس تشاد على طلبات للتعليق.
وواصلت واشنطن استخدام أدواتها المعتادة ضد شبكة بريغوزين في أفريقيا، وفرضت عقوبات جديدة في كانون الثاني/ يناير تستهدف مشاريعه التجارية وشركائه في العديد من البلدان. في غضون ذلك، بدأ الفرنسيون يعترفون بأن الاستياء العميق تجاههم في مستعمراتهم السابقة فتح الباب أمام التدخل الروسي.
في جولة قام بها مؤخرا لأربع دول أفريقية، أقر الرئيس إيمانويل ماكرون بالموجة المتزايدة من المشاعر المعادية لفرنسا ووعد بعصر جديد من الشراكة.
بالنسبة لبعض الأفارقة، جاء إظهار التواضع بعد فوات الأوان. قال هالوك هوا، 29 عاما، وهو بائع متجول في العاصمة التشادية نجامينا، “إن شعب تشاد لا يريد الفرنسيين. على الأقل الروس يريدون مساعدتنا. أما الفرنسيون فالأمر يتعلق فقط بمصالحهم الخاصة”.
ويخشى آخرون من أن العودة إلى المواجهة على غرار الحرب الباردة يمكن أن تقضي على تطلعاتهم الديمقراطية. وقال سوكيس مسرة، زعيم المعارضة الرئيسي، إنه لا ينبغي للولايات المتحدة أن تتقرب من مستبدين مثل الرئيس ديبي في تشاد لمنعه من السقوط في الفلك الروسي.
وقال مسرة، متحدثا عبر الهاتف من الولايات المتحدة، حيث فر بعد مذبحة المتظاهرين في تشرين الأول/ أكتوبر: “سيكون خطأ كبيرا أن يقف الرئيس بايدن إلى جانب ديبي”. وأضاف: “على المدى الطويل، فإن أفضل طريقة للولايات المتحدة لحماية مصالحها في تشاد هي الرهان على الديمقراطية”.