معركة الوعي (152) الانشطار والانفجار القادم
حامد اغبارية
في لحظة ما، تبدو قريبة جدًا، سيحدث انفجار غير مسبوق، لا يشبه انفجار الانتفاضة الأولى ولا الثانية، ولا انفجار هبة القدس والأقصى، ولا يوم الأرض. إنه انفجار مفصليّ، أو على أقل تقدير هو انفجار يُعدّ لمرحلة قادمة مفصلية، تشهد تغييرات كبيرة ومتغيّرات صادمة، ربما سيُدهشُ صانعو مقدّماتها من حجمها وتأثيراتها على المستقبل؛ مستقبل الجميع.
لقد ألقى مجانين حكومة الرؤوس الثلاثة الإسرائيلية حجارتهم الأخيرة في البئر المسمومة، ولن يكون في إمكان “عقلاء” أمريكا والمجتمع الدولي ومخاتير العرب من إخراج تلك الحجارة ومنع وقوع ما بذلوا لأجل منعه كل وسيلة، وأنفقوا لأجله أموالهم الطائلة ليصُدّوا ويسُدّوا. ليصدّوا الشعوب عن الوصول إلى حريتها، ويسدّوا كلّ طريق يوصل إلى هذه الحريّة.
إنها كرة الثلج التي دفع بها مهووسو أكذوبة “شعب الله المختار” وعِرْق الأسياد، الذين تحجّرت في رؤوسهم نظرية الاستعلاء على الأمم تؤزُّها نظرية نبوءات الخلاص أزّا. كرة ثلج بدأت تتدحرج بسرعة مذهلة وتكبر أكثر في كل لحظة تمرّ منذ انفلات عقال غلاة المستوطنين في الحكومة الإسرائيلية وخارجها. فمن ذا الذي سيمكنه أن يوقف كرة الثلج هذه؟!
عند اللحظة الحرجة فإنه لو اجتمعت الإنس والجن على أن توقفها لما استطاعت حتى تصل مداها الذي قدّره الله تعالى لها. وهذا المدى نحن نعرفه، كما يعرفه أحبار بني إسرائيل، الذين يعرفون كذلك أنه المدى الأخير الذي ستصل إليه هذه القضيّة التي أرهقوا بها البشرية دون طائل إلا بحبل النّاس ذاك. وأما الحبلُ مِن الله فلم يبق منه إلا القليل القليل. غير أنّ الطريق إلى آخر المدى لن يكون سهلا، بل سيشهد أحداث وأهوالًا يشيب من هولها الولدان، إلا أن المعادلة الفاصلة في التعاطي مع تلك الأحداث والأهوال تلخّصها الآية العظيمة التي قول فيها ربُّنا جلّ وعلا: {إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ..} (النّساء: 104).
منذ سنوات ذكرتُ- في أكثر من مناسبة- أنه سوف تأتي لحظةٌ ما تدير فيها أمريكا وأوروبا ظهرها للمشروع الصهيوني وللمؤسسة الصهيونية، وعندها سيجد المشروع وأصحابه أنفسهم في حالة حيص بيص، يعضّون أناملهم ندمًا وحسرة. وقد خرج هذا الأسبوع الدامي من بين ظهرانيهم من يقول ذات الكلام أو كلاما يحمل ذات المعنى. ومن ذلك ما قاله المحلل الإسرائيلي أمنون أبراموفيتش (القناة 12) من أنه إذا غضبت واشنطن مما يحدث الآن من طرف الحكومة والمستوطنين، وقررت التخلي عن دعم تل أبيب فإن المؤسسة الإسرائيلية لن تصمد أكثر من أسبوعين. كان يقول ذلك ناصحا غلاة المستوطنين بالتوقف حتى لا يكتبوا النهاية بأيديهم.
وقد سبقه الجنرال إيهود براك، الذي كان أيضا رئيسا للحكومة الإسرائيلية، ولديه من المعلومات ما يكفي، وهو يعلم ما يقول، ويقول ما يقول عن وعي وإدراك وقراءة للتاريخ وللحاضر؛ حيث قال إنه يخشى على دولته من التفكك قبل أن تصل ثمانين سنة من تأسيسها. بل إن نتنياهو بشحمه ولحمه قال كلاما يحمل المعنى نفسه، حين صرح بأنه يضمن لشعبه بقاء الدولة حتى تصل إلى 100 سنة. وهذا يعني أنه لا يحلم بأكثر من هذا، وأن الخوف الوجودي متأصل في قرارة نفوس قادة تل أبيب على اختلاف توجهاتهم السياسية.
ولا يقتصر هذا الموقف على القادة السياسيين الإسرائيليين الذين قد يقول قائل إنهم يستخدمون وسيلة التخويف لأهداف سياسية، ولإثارة مشاعر المجموعات الخلاصيّة التي تحلم ببناء الهيكل الثالث وإنشاء مملكة إسرائيل التي ستخلصهم وتحكم العالم. بل تجد بينهم مفكرين ومؤرخين يحذّرون من نهاية الحلم الصهيوني. ومن هؤلاء على سبيل المثال بيني موريس الذي قال في إحدى المقابلات في صحيفة “هآرتس” عام 2019 إن المؤشرات الحالية تؤدي إلى نتيجة حتمية لا مفر منها لها علاقة بالتطور السياسي والديمغرافي في البلاد، والذي لا يدري كيف يمكن الخروج منه. فعدد الفلسطينيين بين البحر والنهر يفوق عدد اليهود، وقد تتحول المنطقة كلها إلى دولة واحدة بأغلبية عربية، وإن الوضع الذي نحكم به شعبا يقع تحت الاحتلال جدون أية حقوق لا يمكن أن يستمر في القرن الحادي والعشرين. بل إن موريس- الذي أعرب ذات يوم عن أسفه لأن بن غوريون لم يطرد جميع الفلسطينيين عام 1948- يعتقد أنه لن يمضي جيل واحد حتى تكون الدولة الإسرائيلية غير موجودة بصورتها الحالية، مؤكدا أن الفلسطيني لا يمكن أن يتخلى عن حقوقه الكاملة، بما فيها حق العودة، رغم كل النكبات والنكسات التي لحقت به، ورغم كل التنازلات التي قدمتها السلطة الفلسطينية. ولأن المؤسسة الإسرائيلية تعرّف نفسها على أنها (دولة يهودية)، فإن مستقبلها مرتبط غالبا بقدرتها على الحفاظ على أغلبية يهودية في فلسطين التاريخية. وهذا ما يخشى بيني موريس من عدم استمراره لأسباب ديمغرافية. وهو ما عبّر عنه الروائي الإسرائيلي ديفيد غروسمان في إحدى المظاهرات الجارية حالية ضد إجراءات حكومة نتنياهو، حين قال إن هذه المعركة هي معركة وجودية.
لقد قامت المؤسسة الإسرائيلية بدعم من الغرب (بريطانيا) الذي يحمل ذات الاعتقادات الخلاصية ذات البعد الديني المسكون بالنبوءات القديمة، وكذلك فإن الدعم الحالي للمشروع الصهيوني ممثلا بالمؤسسة الإسرائيلية من قبل ملايين الأصوليين المسيحيين في الغرب مدفوع إلى حد كبير بتلك النبوءات الخلاصية التي تتعلق بنهاية العالم.
والسؤال: هل ستتخلى أمريكا وأوروبا عن تل أبيب؟
إن ما يجري الآن من أحداث حول العالم، وخاصة الحرب في أوكرانيا وتداعياتها التي تحمل مؤشرات باندلاع حرب أوسع بين روسيا وبين الغرب، قد يصل مرحلة استخدام السلاح النووي، فإن هؤلاء سوف ينشغلون بأنفسهم وحماية شعوبهم من قادم مجهول، وعندها، حتى لو أرادوا ذلك، فإنه لن يكون في وسعهم توفير الحماية للمشروع الصهيوني الذي عملوا على تمكينه وحمايته وتوفير كل وسائل البقاء والتفوق العسكري له منذ وعد بلفور. إنهم من أجل البقاء مستعدون حتى للتنازل عن السعي إلى تحقيق نبوءات نهاية العالم المرتبطة عقائديا بوجود المؤسسة الإسرائيلية. وإن من أهم الدلالات على هذه المؤشرات حالة الانشطار الحاصل الآن في المجتمع الإسرائيلي، والذي يبدو أنه مقدمة لأحداث قادمة أكبر بكثير مما يجري الآن.