عاشق البيارة (4)
عبد القادر سطل– يافا
مقومات النجاح
قيل، من الصعب وصول القمة، ولكن الأصعب هو ضمان البقاء هناك. كل واحد منا، كفرد أو كمجتمع يحاول أن يحقق في حياته نجاحات هي بمثابة السّلم الذي نصعد به لنصل إلى القمة. الطريق نحوها عادة لا يكون سهلًا، فهناك معوّقات وعثرات تقف في مسارنا ونحتاج الى جهد ومثابرة وإرادة لكي نمضي نحو الهدف. قد يوجد مسار واحد أو أكثر وعلينا أن نختار ما يلائم قدراتنا للوصول إلى هناك. نستذكر هنا قول الشاعر: وما نيل المطالب بالتمني، ولكن تأخذ الدنيا غلابا. وقيل: وما استعصى على قوم منال، إذا الاقدام كان لهم ركابا. الرغبة لا تكفي يا أخي، لابد من إقدام ومواجهة الريح التي قد لا تجري بما تشتهي السفن، ولا بد من مقوّمات للنجاح، وأوّلها التسلَح بالصبر والايمان، نضيف إليها موضوع التفكير الإيجابي وهذا يتطلب منّا عدم النظر إلى الخلف، فقد نصاب برعب الارتفاع عندما ننظر نحو الهاوية ونصاب بشلل يمنعنا من التقدم نحو القمة.
من تجربتي الشخصية، أعرف أنَّ النظر إلى الأسفل قد يسبب اضطرابا نفسيا وخوفا يمنعنا من الحركة، وهو نوع من فوبيا الأماكن المرتفعة وعلاجها يكون بأن نتجنب التفكير السلبي ونبتعد قدر الإمكان عنه لأنه مثبط. ولا بد من الإشارة إلى متعة التجربة ومسار التعلَم الذاتي من كل مرحلة من مراحل المسيرة. ونتذكر دائمًا أننا لسنا وحدنا في هذا المسار، بل يوجد من ينافسنا للوصول إلى نفس القمة والتربَع عليها ومحاولة منعنا من الوصول اليها. وعندما نصل الى القمة ونتنفس الصعداء نرى أن مرحلة واحدة قد انتهت وبدأت المرحلة الأصعب، وهي بناء السور الذي يحمينا من أولئك الذين شاهدناهم في طريق الصعود. بالأمس كان شريكًا منافسا، أمّا الآن وقد وصلنا فقد يمسي عدوًا أو خطرًا يهدد وجودنا ولا بد من وضع استراتيجيات لمنع وصوله أو تغير مساره بحيث يفقد الطريق ويمضي نحو قمة أخرى بعيدة عن طموحاتنا وأهدافنا.
لقد قرر آباؤنا الكنعانيون العرب قبل حوالي خمسة آلاف عام، بناء يافا في أعلى منطقة على السهل الساحلي الفلسطيني الذي يعتبر الجزء الجنوبي من ساحل بلاد الشام. موقع يافا المميز، وكونها الفنار الطبيعي للساحل الفلسطيني وبوابة فلسطين والأراضي المقدسة، جعل منها هدفًا للطامعين بها على مرّ التاريخ. وقبل أن نسترجع بعض الاحداث التاريخية من يافا لا بد من ذكر بعض الأمور التي تعتبر بمثابة مقومات النجاح والتطور، وأوّلها المياه، فيافا كما ذكرت هي مدينة محاطة بمياه من ثلاث جهات ناهيك عن الثروات المائية تحت الأرض أو ما يسمى بالمياه الجوفية. هنا نشير إلى أنّ طريقة ضخ المياه إلى بيوت المدينة وبياراتها كان عبر حفر آبار ارتوازية لتغطية حاجة الأرض والانسان من الماء. من هنا أُطلق على بيوت يافا اسم بيوت الآبار في يافا. وكلمة بيارة، مشتقة من بئر وري.
كنا قد ذكرنا أن البرتقال والحمضيات عامة أُحضرت الى يافا في القرن التاسع، ولكن المدينة ازدهرت قبل ذلك بكثير. من ضمن أسباب ومقومات النجاح، إضافة إلى المياه الوفيرة، فإن تربتها كانت من أخصب الأرضي في المنطقة والغنية بالسماد الطبيعي والاملاح والمعادن التي كانت سببا بنجاح أي مشروع زراعي في المنطقة، من حبوب وكروم العنب والتين والزيتون، وقبل ذلك كانت المنطقة غزيرة بغابات السنديان والبلوط وهي من خيرات يافا التي بُنيت منها الاساطيل والسفن في حوض البحر الأبيض المتوسط، وكانت محط انظار الطامعين ومنهم الفراعنة الذين احتلوا يافا مرتين على الأقل لتأمين طرق التجارة من جهة، وقطع الأخشاب من منطقة السهل الساحلي بهدف بناء السفن والاعمار في انحاء مصر. قبل أشهر قليلة، وُجد في منطقة روبين التي تبعد عن يافا ما يقارب الـ 13 كيلومترا، أدوات تحنيط تعود للفترة الفرعونية.
نعم، لقد وصلت يافا الى القمة ولم يكن ذلك بالسهولة ولا بالطرق المفروشة بالورود، ولكن بالشوك، وعانت كثيرا بسبب مكانتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية. عندما كانت أوروبا تعاني بين الحربين من الجوع والعطش، كانت يافا في أوج ازدهارها، وقد سبق أن ذكرنا جزءا من هذه الإنجازات. في بحث مقارن بين مدن يافا والقاهرة وبيروت من ناحية مستوى المعيشة، كانت يافا تتربع على عرش الرفاه الاجتماعي والاقتصادي، مع ذلك لا بد من ذكر الويلات التي عانت منها المدينة بسبب المكانة المرموقة التي وصلت إليها عبر التاريخ: 54 حصارا واجتياحا واستيلاء، دُمرت 8 مرات، نهبت 9 مرات، تهجير وسبي 9 مرات، 23 مجزرة بما فيها مجزرة نابليون (1799)، ناهيك عن الزلازل والاوبئة التي نالت من سكان المدينة. وما زالت يافا تتربع على تلك الربوة المشرفة على البحر، أطرافها تداعب أمواج البحر وعبيرها القادم من بياراتها أمسى من ذكريات الماضي الجميل.