قطعة من مليون.. تاريخ من نهب الآثار وبيعها.. هل تنجح فلسطين في استعادة آثارها المنهوبة؟
تستعد وزارة السياحة الفلسطينية لعرض قطعة أثرية يعود تاريخها إلى ما قبل 2700 سنة، بعد استردادها من الخارج مطلع يناير/كانون الثاني الماضي.
والقطعة الأثرية عبارة عن ملعقة عاجية كانت تستخدم لوضع البخور في المعابد الوثنية خلال فترة الحكم الآشوري لفلسطين في القرنين السابع والثامن قبل الميلاد. وتمت استعادتها بتعاون فلسطيني مع السلطات الفدرالية الأميركية وبموجب اتفاقية لحماية الآثار في فلسطين.
وملعقة العاج الآشورية هي الأولى التي تتم استعادتها من نحو مليون قطعة أثرية تُقدر وزارة السياحة والآثار الفلسطينية أنها نُهبت وسُرّبت خارج فلسطين خلال الـ100 عام الماضية.
وحول تفاصيل عملية الاسترداد، يقول مدير عام التنقيب والمتاحف في وزارة السياحة الفلسطينية جهاد ياسين، للجزيرة نت، إن الكشف عن هذه القطعة جاء بعدما ضبطتها الشرطة الفدرالية الأميركية ضمن مجموعة من القطع الأثرية، وبعد فحصها تبين أن مصدرها فلسطين ومن منطقة الخليل جنوبي الضفة الغربية تحديدا.
وفتحت استعادة هذه القطعة الباب أمام مطالبات معقدة وكثيرة بقطع أخرى ليس من أميركا فحسب، حسبما يقول ياسين، بل من أماكن أخرى، فحصر الآثار المنهوبة في ظل عدم سيطرة السلطة الفلسطينية على كل المناطق المحتلة عام 1967 وكذلك على المعابر والحدود يصعّب الأمر.
ويقصد ياسين ضعف السيطرة على المناطق المصنفة “ج”، وفق اتفاقية أوسلو (خاضعة للسيطرة الأمنية والإدارية الإسرائيلية)، حيث تضم هذه المناطق أكثر من 60% من الأماكن الأثرية في الضفة الغربية، بما فيها القدس المحتلة، من أصل 7 آلاف موقع أثري في المناطق المحتلة عام 1967.
تقسيمات أوسلو المعوقة
وتعتبر وزارة السياحة الفلسطينية تقسيمات أوسلو الجغرافية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل أكبر المعوقات في متابعة القطع الأثرية ووقف تهريبها، حيث تخضع مناطق واسعة في الضفة الغربية والقدس للطرح الأيديولوجي الاستيطاني الذي يزعم أن كل المواقع التاريخية هي مسؤولية إسرائيلية ويتم نسبها للتراث اليهودي حتى لو كانت تحت سيطرة السلطة الفلسطينية.
وحديثا -منتصف عام 2020- سرقت السلطات الإسرائيلية حوض معمودية أثريا يعود للعهد البيزنطي من الموقع الأثري المعروف باسم “خربة تقوع” الواقع في المنطقة المصنفة “ب”، وتسيطر عليها السلطة الفلسطينية إداريا.
وطالبت السلطة باسترجاع الحوض المسجل في سجلاتها الرسمية، وهو ما يسهل عملية المطالبة به على عكس آلاف القطع التي تم الاستيلاء عليها وتهريبها في الفترة السابقة لتأسيس السلطة (1993) وفي فترة الانتداب البريطاني ثم الاحتلال الإسرائيلي، وبعضها معروض في متاحف أوروبية.
وبالنسبة لإسرائيل، فإن كل اكتشاف أثري جديد في فلسطين يتم السيطرة عليه -خاصة إذا حمل بُعدا دينيا- لتعزيز الرواية الاستيطانية الدينية كما جرى نهاية 2022 بعد اكتشاف كنيسة في الموقع الأثري بمنطقة الجفتلك في الأغوار الفلسطينية تعود للفترة البيزنطية، حيث سيطرت “سلطة الآثار الإسرائيلية” على الموقع، وبعد عمليات تنقيب نقلت الفسيفساء المكتشفة لمتاحفها.
“ذر الرماد في العيون”
وبالعودة إلى ملعقة العاج الأشورية، تحدثت وسائل إعلام عبرية عن عدم رضا إسرائيلي ومطالبات للأميركيين بتوضيح إعادتها للجانب الفلسطيني.
وبرأي أستاذ علم الآثار والباحث بجامعة النجاح الوطنية لؤي أبو السعود، فإن هذه الخطوة جاءت “لذرّ الرماد في العيون”، خاصة بعد تسليم الولايات المتحدة 40 قطعة أثرية لإسرائيل في الفترة نفسها. وقال للجزيرة نت إن القطع التي تمت إعادتها لإسرائيل ملك للفلسطينيين ويجب العمل على استعادتها أيضا.
ويعتقد أبو السعود، الذي يتابع كل الاكتشافات الأثرية الجديدة في فلسطين، أن سبب إعادة الملعقة الأثرية هو أنها تعود للفترة الوثنية، وهذه ليست ذات قيمة كبيرة لإسرائيل، وإلا “لما سمحت بذلك منذ البداية”.
وبحسب أبو السعود، فإن إسرائيل تحاول السيطرة على الآثار ونسبتها لها، لأنها تدعم روايتها الصهيونية الاستعمارية، فكل المناطق التي يثبت فيها أي أثر ديني يتم إسقاط الرواية التوراتية عليه لخلق رابط للإسرائيليين على الأرض، كما هي الحال في المزارات والبرك وعيون المياه.
موشيه ديان.. سرقة علنية
ويسمح القانون الإسرائيلي بتجارة الآثار على عكس القوانين في البلدان العربية المحيطة، وهو ما يسهل السيطرة على معظم القطع التي يتم العثور عليها في عمليات تنقيب يقوم بها منقبو ولصوص الآثار، وبيعها في الخارج، بالمزادات الأميركية والأوروبية.
ولا تقتصر سرقة الآثار الفلسطينية على اللصوص المحليين، إذ إن بعض القادة الإسرائيليين المتنفذين نفذوا عمليات سرقة لآثار فلسطينية، مثل موشيه ديان الذي يُوصف بأنه أكبر لصوص الآثار حين استغل بشكل علني منصبه للسيطرة على آلاف القطع الأثرية الفلسطينية والمتاجرة بها خلال تنقله من عنصر في العصابات الصهيونية إبان النكبة عام 1948 حتى أصبح وزيرا لجيش الاحتلال والزراعة والخارجية.
وبعد وفاته عام 1981، باعت زوجته كل ما تبقى من قطع أثرية نهبها من فلسطين ومنطقة سيناء المصرية، لما يُعرف بـ”متحف إسرائيل”.
اتفاقيات تدوسها إسرائيل
وكل المواقع والآثار التي قامت إسرائيل بالتنقيب عنها منذ احتلال عام 1967 كان يفترض تقديم قائمة بها للجانب الفلسطيني ضمن ما نصت عليه اتفاقيات أوسلو تمهيدا للمطالبة بها في اتفاقيات الحل النهائي، ولكن الاحتلال تنصل من هذا الالتزام.
وجاء هذا التنصل أيضا رغم الاتفاقيات الدولية المتعددة التي تنظم الوضع القانوني للآثار في المناطق المحتلة، ومن بينها اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح (1954)، والبروتوكولات الملحقة باتفاقية جنيف الرابعة (1972) والتعديلات الملحقة بها (1977)، التي تنص بشكل واضح على منع نقل واستيراد ممتلكات ثقافية واقعة تحت الاحتلال وضرورة حمايتها من قبل القوة المحتلة.
الباحث الدكتور حمدان طه، مسؤول الطاقم الذي قام بإعداد الملف التفاوضي حول الآثار خلال مفاوضات أوسلو مطلع التسعينيات، وأسس في ما بعد دائرة الآثار الفلسطينية التي تحولت لوزارة، قال إن هذا الملف قبل تأسيس السلطة لم يكن محل اهتمام لدى مؤسسات منظمة التحرير، إذ انقطعت فلسطين لعقود عن ممارسة دورها الطبيعي في إدارة مواردها الثقافية.
وأضاف طه للجزيرة نت أن “إسرائيل حاولت إضفاء صبغة تاريخية على المشروع الاستيطاني في فلسطين من خلال الاستحواذ على المواقع والمواد الأثرية وكل ما يتصل بها، فكان بناء المستوطنات ملاصقا للمناطق التاريخية المهمة”.
وأشار طه إلى مشروعات قامت بها وزارة السياحة الفلسطينية لحصر المواد المنهوبة، ومنها دراسة أولية للمواد التي نقلت من قطاع غزة، ولكنها لم تكن شاملة وكاملة.
ويعزو طه الإخفاق في حصر هذه القطع -تمهيدا للمطالبة باستعادتها- إلى قلة الإمكانيات، خاصة أن نهب الآثار لم يبدأ من الاحتلال الإسرائيلي بل يمتد إلى عهد الانتداب البريطاني، الذي شهد عمليات نهب شبه منظمة.
ورغم أن استعادة هذه القطع أو جزء منها ليست بالعملية المستحيلة، كما يقول طه، فإنها تتطلب جهدا كبيرا، في حين أن الجهود الفلسطينية وحدها لا تكفي.