بعد توحش الأسعار… كيف يتدبر المصريون أمورهم المعيشية؟
تحاول الشابة المصرية زينب، وهي محاسبة في إحدى الشركات الخاصة، التنكر عبر وضع كمامة على فمها وأنفها ونظارة شمسية على عينيها، عند دخولها إلى أحد منافذ بيع “أهلا رمضان”، وهي مراكز بيع بأسعار مخفضة تابعة لوزارة التموين.
تسخر زينب ضاحكة من طريقتها في التنكر، قبل أن توضح أنها تسعى إلى توفير ما يكفي أسرتها من البروتين الحيواني، عبر شراء بعض اللحوم المعروضة بسعر أرخص، إذ يبلغ سعر الكيلوغرام الواحد من اللحوم نحو مائتين وخمسين جنيهاً لدى الجزار (نحو ثمانية دولارات ونصف)، في حين يبلغ سعره في منفذ البيع المخفض نحو 180 جنيهاً.
الكمامة ليست للحماية من فيروس كورونا، والنظارة ليست لوقاية العينين من أشعة الشمس الشتوية، تقول زينب: “أخشى أن تتعرف عليّ السيدة التي تساعدني في تنظيف المنزل، وهي من أبلغتني في السابق بأنها تشتري من هذه المنافذ”.
في المنفذ لم تقابل المحاسبة الشابة السيدة التي تساعدها في تنظيف المنزل، لكنها قابلت إحدى جاراتها في البناية التي تسكنها بمنطقة متوسطة المستوى الاجتماعي في منطقة الهرم بمحافظة الجيزة غربي العاصمة. كانت الجارة تشتري العسل من نفس المنفذ، وتعرفت السيدتان على بعضهما بعضا رغم محاولاتهما التنكر، وقالت لها السيدة الثانية إنها تكرر الذهاب إلى منافذ أخرى تابعة لوزارة الزراعة، وتتحمل الزحام من أجل أن تشتري بأسعار أرخص.
عادت زينب إلى منزلها بما اشترته، وفي يوم لاحق حضرت السيدة التي تساعدها في المنزل، وتنقل عنها أنها أخبرتها بأنها لم تعد تذهب إلى تلك المنافذ، لا منافذ وزارة الزراعة، ولا منافذ “تحيا مصر”، ولا حتى العربات المتنقلة التي توفر السلع الغذائية بأسعار رخيصة، إذ باتت لا تملك ما تشتري به بعد استغناء كثير من البيوت عن خدماتها، والقيام بأداء الأعمال المنزلية بأنفسهم لتوفير ما يدفعونه لها، وإنها استغنت عن اللحوم، واستبدلتها بالبقوليات وأحشاء الطيور والحيوانات، ومنها “الكبد والقوانص”، لتعويض نقص البروتين لدى صغارها.
أما زينب، فأصبحت تكتفي بشراء كيلوغرام واحد من اللحوم الحمراء أسبوعياً، في حين أنها كانت في السابق تشتري كيلوغرامين على الأقل لأسرتها البالغ عدد أفرادها ستة أشخاص، كما استغنت عن معظم مكونات “السندويتشات المدرسية” لأطفالها، فلا مربّى، بل فقط جبن محلي الصنع، ولا عصائر ولا فاكهة، وإنما قطعة من الحلوى المصنوعة منزلياً، والتي لم يكن الصغار يأكلونها عادة “لكنهم سيعتادونها، وسيعيشون كما عشنا في طفولتنا”، حسب قولها.
تقف الأربعينية حنان أمام أرفف المتجر في حيرة، للاختيار ما بين الأرخص سعراً والأكثر جودة من ضروريات العيش من السلع الغذائية. الحيرة باتت السمة الغالبة على كثير من أبناء الطبقة المتوسطة مثلها، إذ تجد الآخرين يطيلون التأمل والمقارنة مثلها. اختارت حنان عبوة زيت زيتون، وحين نظرت إلى سعرها الذي تضاعف عما كان عليه قبل أسبوع، أعادتها إلى مكانها، رغم أن “زيت الزيتون مكون أساسي من مكونات مائدة أسرتي، أو هكذا كان”.
لم تفاضل هذه المرة بين أكثر من نوع لتختار الأرخص، “فكل الأصناف مدمرة للميزانية، وقد استسلمت لحقيقة أنني نزلت درجة في سلم الطبقات الاجتماعية رغم أنني أمتلك دار حضانة للأطفال في الجيزة”.
تتذكر حنان بمرارة حين فاضلت في مرة سابقة بين صنفين، واختارت أرخصهما رغم انخفاض جودته، وحينما بلغت مكان الدفع أبلغها الموظف بأن السعر الموجود على ما اختارته بات أغلى، فاضطرت إلى إعادته إلى مكانه حين عرفت السعر الجديد، والذي سيصل بالميزانية إلى أرقام تعجز عنها.
تواجه الأم الأربعينية ثورة أبنائها المطالبين بمشهيّات، مثل الكاتشب والمايونيز، والمشروبات الغازية التي كانت أساسية خلال الطعام، وكلها أمور قررت أنها لم تعد أساسية، وحرّمت شراءها توفيراً للمال.
بدورها، استغنت شيماء، وهي مصرفية، عن نوع معين من الجبن، كانت تشتريه لأنه مصنوع من الألبان، واكتفت بالأنواع العادية التي تعلم أنها مكونة من زيوت النخيل، رغم أنها تدرك مدى خطورتها على صحة الكبار، خاصة من يعانون من مشاكل في الدورة الدموية، لكن “الصغار يمكنهم تناولها من دون أية أضرار”.
حذفت شيماء البيض “الأورغانيك” من قائمة الأصناف المشتراة، واكتفت بالبيض البلدي الذي تشتريه من سيدة ريفية تجلب لها ما تطلبه من أجبان وألبان بأسعار مخفضة لأنها “زبونتها”، لكنها رغم ذلك خفّضت من الكميات المعتادة. وترى في حديثها مع “العربي الجديد”، أن “لكل صنف غذائي فوائده، لذا فأنا أحاول أن أنتقي من كل صنف الأجود، لأن الأردأ هو والعدم سواء، خاصة من السلع الأساسية مثل الأرز الذي تصبح الأصناف الأردأ منه مثل العجين بعد الطبخ، وعوضا عن استبدال السلعة بنوعية أردأ ألجأ إلى تقليل الكميات المشتراة، وحتى هذه الحيلة لم تعد مجدية لإكمال الشهر بالراتب المتآكل بفعل التضخم”.
تضيف: “قررت الاستغناء تماماً عن شراء الحلويات، والتي بدأت أتقن صنعها منزلياً حينما يطلبها أبنائي، ضمن مساعي التوفير، فرغم انتماء أسرتي إلى طبقة كانت فوق المتوسطة حتى شهور قليلة مضت، إلا أنني لست أغنى من الممثلة مادلين طبر التي لجأت إلى صنع البيتزا والحلويات منزلياً عقب ارتفاع أسعارها”.
بعد بحث طويل، اختار عبد الرحمن سيد، وهو عامل في معرض للسيارات، الأقل جودة من السلع الغذائية في معرض “أهلا رمضان” والذي افتتحته الحكومة قبل موعد حلول شهر الصيام بأكثر من شهرين، لمحاولة مواجهة ما أسمته “استغلال التجار للأزمة عبر زيادة الأسعار”. اختيار الأرخص له هدف آخر غير التوفير، كما يشرح عبد الرحمن في حديثه مع “العربي الجديد”، وهو خفض استهلاك أسرته من الطعام. يقول: “كلما زادت لذة الطعام في أفواه الأبناء، اشتهوه أكثر، واستهلكوا منه المزيد.
في حال شراء الأجود سيكون بإمكانهم الاستمتاع بلذة الطعم لنصف شهر، ولكن ذلك سيعني عجزي عن إطعامهم في بقية الشهر”. ويؤكد أن التاجر أيضاً مظلوم، لأن الأسعار مرتفعة من المنبع، ولم ترتفع بدافع الطمع التجاري كما يروج البعض: “أنا ابن السوق، وأعرف ما يجري في سوق المواد الغذائية، وهو شبيه بما يجري في سوق السيارات مع اختلاف طفيف، لأن كثيرين يمكنهم الاستغناء عن السيارة، لكنهم لن يستغنوا عن الطعام. الأسعار غالية من المنبع، وليس بسبب جشع التجار”.