انتبه.. أمامك إشارة تمهل!!
ليلى غليون
ما أعظم كتاب الله تعالى خصوصًا عندما تخترق آياته البينات جدران صدورنا وتفتح مغاليق قلوبنا وتبث نوره الوهاج في ثناياه وخلجاته وزواياه المظلمة.
لقد توقفت كثيرًا وأنا أقرأ كتاب الله تعالى عند قوله جل في علاه: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ). إنها قاعدة ربانية ارتقت إلى ذاك المرتقى السامق من الجلال والعظمة والتي رسمت خريطة لا أقوم ولا أعظم في فن التعامل الراقي والكريم والذي أول من سيقطف ثماره صاحب هذا الخلق القويم لتتعدى منفعته الواسعة وتعم على الأفراد والجماعات والمجتمعات بصورة عامة. إنهن ثلاث قواعد متينة، بل هي إشارة في طريق كل واحد منا وقفت منتصبة وتشع محذرة ومنذرة ومبشرة ومرشدة وتقول لك تمهل لتصل إلى نهاية طريقك ومشوارك بسلام، إشارة كفيلة بأن تهدم جبال الكره وتجفف منابع الخصام وتذيب جليد الشحناء والضغينة وتمنحك السلامة النفسية والصحية والاجتماعية، وقبلها رضوان الله تعالى والفوز بجنته.
سبّ رجل أبا بكر الصديق رضي الله عنه فقال أبو بكر: (سبُّك يدخل معك قبرك ولن يدخل قبري). لقد علم الصديق رضي الله عنه أنَّ هذا السباب وهذا الشتم وهذا الكلام البذيء، سوف يضر صاحبه الذي تفوه به ولن يضره هو بإذن الله، فأعرض عنه ولم يوله اهتمامًا، بل كان رده عليه أمرًا بالمعروف والإحسان، ليغلق هذا الملف من بدايته، ويغلق باب فتنة فغرت فاهها مكشِّرة عن أنيابها، فلم يشعلها حربًا انتقامية لا يعلم ماذا ستحصد من الشرور إلا الله تعالى، بل حسم القضية مباشرة لصالحه، نعم لصالحه قبل أن يكون لصالح الشخص الذي آذاه بالشتيمة، وهذا الخلق الكريم ليس من السهل أن يتخلق به إنسان، ولكنه أبو بكر صاحب من كان خلقه القرآن صلى الله عليه وسلم والمتربي في مدرسته.
تخيل نفسك في رحلة حياتك، طويلة كانت أم قصيرة، والتي حتما ستواجه فيها ما يسرك وما يسوؤك، وتلتقي فيها بالسفهاء والحكماء، تخيل نفسك وأنت تدقق في كل صغيرة وكبيرة، وتتعب نفسك في كل كلمة تسمعها قيلت عنك أو آذتك، أو تصرف ما لم يعجبك، فتنتفض وترتعد وتجيش جيوش نفسك للرد على من أخطأ بحقك أو ظلمك بكلمة هنا أو هناك، وتنتقم من كل من أساء إليك، عندها كبر على نفسك أربع تكبيرات. لا أقصد أنك سوف تموت، فالآجال في علم الله تعالى، ولكني أقول لك: عظم الله أجرك في سلامة صحتك، وهدوء بالك، وراحة نومك، واستقرار نفسيتك، بل وسلامة دينك، لأنك في هذه الحالة سوف تسبح في محيط لا ساحل له من المنغصات والهموم، لا تفكر إلا بالانتقام وكيف ترد الصاع صاعين، مشوش الفكر مكدر البال، وربما ضيعت الكثير من المسؤوليات والمهام الكبيرة والمصالح الخاصة والعامة بسبب انشغال نفسك وتفكيرك وأعصابك بالرد والانتقام.
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: “وأعلم أن الكلام الخبيث السيء القبيح الذي قيل فيك يضر صاحبه ولن يضرك، فعليك أن تأخذ الأمور بهدوء وسهولة واطمئنان ولا تُقِم حروبًا ضارية في نفسك فتخرج بالضغط والسكري وقرحة المعدة والجلطة ونزيف الدماء”.
هكذا فلتكن:
– كن كالشجر ترميه بالحجر فيرد عليك بالثمر كما قال الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله.
– كن كالزيتون تضغطه وتضغطه فيأتيك بالزيت الصافي الرقراق.
– كن كالفواكه عـنـدما تعصــرها تعطيك ألــذ العصــائر.
– عندما تستيقظ الفتنة وتفغر فاها متململة أعدها إلى نومها وصب عليها الماء لتخبو نارها وتخمد، هكذا يفعل العظماء والعقلاء، بل الحكماء، ولا تصب عليها الزيت لتزيد في شدتها وجنونها، فهكذا يفعل الضعفاء ذو النفوس العليلة.
– أغلق ملفات المشاكل أولًا بأول، وإياك أن تكدسها على رفوف قلبك وعقلك فتشتعل دفعة واحدة لتحرق كل جميل وخير وحب فيك فتثور كالبركان الغاضب لا تترك شيئا إلا جعلته كالرميم.
– لا تحكم على نفسك بالإعدام كأن تشغلها بما سفه وما تفه من أقوال وأفعال نقلتها إليك رياح السموم ممن رضوا لأنفسهم أن يكونوا بريدًا للشيطان يؤدون له خدمة مجانية، بل أشغل هذه النفس بالدور الريادي الذي خلقت من أجله، وانه لدور عظيم لو فقهته، وقل ليس لدي وقت لهذه التفاهات.
– إذا سبك جاهل أو سفيه فقل له كما أمرك رب العزة بقوله جل في علاه: (… وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا) جرب ولن تندم .
– تعامل مع الناس بأخلاقك أنت لا بأخلاقهم هم، وحافظ على مستوى أخلاقك وعض عليه بالنواجذ وإياك والهبوط إلى مستوى يفقدك منسوب الخير الذي يسري فيك: (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم).
– إذا تقدَّم منك ساعي بريد الشيطان لينقل لك خبرًا قل له: ويحك سلم منك العدو ولم يسلم منك أخوك، اغرب عني فأذناي بهما صمم عن السفهاء.
وما أجمل ما قاله الشاعر في هذا الباب:
كم من لئيم مشى بالزور ينقـلـه لا يتقي الله لا يخشى من العـار
يود لو أنه للـمـرء يهـلـكـه ولم ينلـه سـوى إثـم وأوزار
فإن سمعت كلامًا فـيك جـاوزه وخل قائله فـي غـيه سـاري
فما تبالي السما يومًا إذا نبـحـت كل الكلاب وحق الواحد الباري
وقد وقعت ببيت نـظـمـه درر قد صاغه حاذق في نظمه داري
لو كل كلب عوى ألقمته حجـرًا لأصبح الصخر مثقالًا بـدينـار