معركة الوعي (146) حول بعض ما جاء في كتاب “قدس أقداسنا/ قدس أقداسهم” ليتسحاق رايتر ودفير ديمنت (4)
حامد اغبارية
المقال الرابع من مناقشة ما جاء في كتاب “قدس أقداسنا/ قدس أقداسهم- الإسلام، اليهود وجبل الهيكل” للمستشرقيْن اليهودييْن يتسحاق رايتر ودفير ديمنت. ورايتر هو رئيس الجمعية الإسرائيلية لدراسات الشرق الأوسط ومحاضر في كلية القاسمي في باقة الغربية، وشغل في السابق نائب مستشار رئيس الحكومة للشؤون العربية في حكومات بيغن وشامير وبيرس. أما ديمنت فهو باحث مختص في سياسات الشرق الأوسط والإسلام. وقد صدر الكتاب عام 2020 باللغة الإنجليزية، وترجمه إلى العربية عمر واكد.
- جاء في الكتاب (ص 23) أن الطبري تحدث عن عدم إذن الله لداود ببناء الهيكل وبناه سليمان “فأراد داود أن يأخذ ببنائه فأوحى الله إليه أن هذا بيت مقدس وأنت صبغت يديك في الدماء فلست ببانيه… ولكنِ ابنٌ لك أملكه بعدك، أسميه سليمان، أسلِمُه من الدّماء “…!
إنَّ الذين افتروا على داود عليه الصلاة والسلام في عِرضه وشرفه، وجعلوه مغتصِبا لزوجات الآخرين وزانيا وسارقا للمُلك، يسهل عليهم أن يقولوا مثل هذا الكلام.
وغنيٌّ عن القول إن الطبري اعتمد في هذه الرواية على سِفر “خبر الأيام”، فهي من تحريفات التوراة، ولا أصل لها على الحقيقة. وقد نبَّهْنا إلى منهج الطبري في تاريخه، ولا حاجة للتكرار هنا. فداود نبيٌّ مُرسل، وليس مجرد ملك كما يعتبره اليهود، وهو من سلالة الأنبياء الأطهار المنزَّهين عن الزلل والخطأ والخطيئة والفحشاء والكذب والافتراء، ناهيك عن سفك الدماء. ثم تارة يقولون إن الله حرمه من بناء بيت المقدس لأنه بنى بيتا له أولًا قبل المسجد، وتارة أخرى لأنه قرر إحصاء بني إسرائيل دون إذن من الله تعالى، وتارة لعلاقته بتلك المرأة التي اتُّهم بها زورا، وهو نبي معصوم، وتارة لأنه اغتصب بيتًا لامرأة بني إسرائيل ليبني مكانه بيت المقدس!! فأي هذه الأسباب هو الذي حرم داود عليه السلام من بناء بيت المقدس؟؟ ولو ناقشنا بتأنٍّ قصة الإحصاء لوجدنا العجب.
أولا: ففي صموئيل أن الرب هو الذي أمر داود بإحصاء الشعب (امض واحصِ الشعب). فلماذا يعاقبه على طاعة أمره؟ ولو أن داود خالف أمر الله في الإحصاء فما ذنب بني إسرائيل حتى يُقتلوا هذه المقتلة العظيمة؟ أيكون الربُّ ظالما إلى هذه الدرجة والعياذ بالله؟!! كذلك ليس في نصوص التوراة نصٌّ ينهى عن الإحصاء، بل في نصّ التّوراة أن الرب كان قد أمر موسى عليه السلام بإحصاء كل سِبط من أسباط بني إسرائيل بعد الخروج من مصر (سفر العدد). فكيف يقع هذا التناقض العجيب؟؟! كيف تكون يدا داود مصبوغة بالدماء والرب هو الذي أهلكهم؟!! ما ذنب داود إذًا؟؟ ناهيك عن أن ما حدث في الرواية التاريخية أن وباء الطاعون هو الذي أحدث هذا الموت في بني إسرائيل، وأن الأمر لا علاقة له بإحصاء، ولا بمعصية منسوبة إلى داود، ولا إلى غضب الرب، وإنما هي خرافة توهَّمها نفرٌ من بني إسرائيل وأشاعوها بين الناس فصدّقها العامّة والجهلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
- جاء في الكتاب (ص 24) أن داود هيأ لسليمان الذهب والفضة والحديد وما يحتاجه لبناء بيت المقدس. وهذا بنص التوراة. والسؤال: أليست التوراة هي التي تقول إن سلميان رفع الضرائب على الناس وأخذ أموالهم لبناء الهيكل الذي كلّفه الكثير؟ أليس هذا يعدّ ظلما؟ وما الفرق بين هذا (الظلم) وبين (معصية داود)؟ لماذا يحرم داود عليه السلام من بناء بيت المقدس ويُمنح لسليمان عليه السلام؟
هل يُبنى بيت الرب على ظلم الناس، وهو (أي الرب) رفض منح هذا الحق لداود لأنه اغتصب بيتًا لأحد الناس؟
ثمَّ تقول التوراة إن داود هيَّأ لبيت الرب ذهبا مائة ألف وفضة ألف ألف ونحاسا وحديدا بلا وزن (أي كثير لا يحصى) وخشبا وحجارة، والذهب والفضة والنحاس والحديد ليس لها عدد…. إذا كان الأمر كذلك فما حاجة سليمان عليه السلام لرفع الضرائب كما تقول كتب بني إسرائيل، وهو (أي سليمان) قد آتاه الله من المُلك ما لم يعطه أحدا من العالمين، وسخّر له كل شيء، حتى أنه سخّر الجن يعملون له ما يشاء؟ فلماذا يُثقلُ كاهل الشعب بالضرائب؟ هذا ظلم لا يرضاه الرب، كما لم يرض (ظُلم) داود!!!
ثمَّ إذا كان الربُّ قد حرمَ داود من بناء بيت الرّب للأسباب أعلاهُ، لأنه يريده بيتا طاهرا نقيّا لا تلوّثه معصية، فكيف يقبل الرب من داود كل هذه الأموال؟ إنها من عجائب التحريفات والكذب على الله وعلى أنبيائه عليهم الصلاة والسلام!
- ومن محاولات المؤلفّيْن تلبيس الأمور على القارئ إيرادهما الرواية التالية التي قالا إنها رواية هامّة وردت في كتاب “عيون الأثر” لمحمد بن عبد الناس (القرن الرابع عشر) تدل على أن المسلمين الأوائل كانوا يعلمون علاقة اليهود بالصخرة على جبل الهيكل، حتى أيام الهيكل الأول وبعد خرابه: “ورُوِّينا عن طريق أبي داودَ في كتاب (الناسخ والمنسوخ) له قال: كان سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لَا يُعَظّمُ إيلِيَاءَ كَمَا يُعَظّمُهَا أَهْلُ البَيْتِ، قَالَ: فَسِرْت مَعَهُ وَهُوَ وَلِيّ عَهْدٍ، قَالَ: وَمَعَهُ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ وَهُوَ جَالِسٌ فِيهِ: وَاَللهِ إنّ فِي هَذِهِ الْقِبْلَةِ الّتِي صَلّى إلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ وَالنّصَارَى لَعَجَبًا- قال ابن القيم: كذا رأيته والصواب: اليهود- قَالَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ: أَمَا وَاَللهِ إنّي لَأَقْرَأُ الْكِتَابَ الّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى مُحَمّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْرَأُ التّوْرَاةَ، فَلَمْ يَجِدْهَا الْيَهُودُ فِي الْكِتَابِ الّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ تَابُوتُ السّكِينَةِ كَانَ عَلَى الصّخْرَةِ، فَلَمّا غَضِبَ اللهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ رَفَعَهُ، فَكَانَتْ صَلَاتُهُمْ إلَى الصّخْرَةِ عَنْ مُشَاوَرَةٍ مِنْهُمْ”.
من خلال النصّ أعلاه يحاول المؤلفان- عبثًا- إضفاء قدسية عند اليهود على صخرة بيت المقدس، وشرعية لعلاقتهم بالمكان من خلال هذه القدسية. وهذا كلام يسوقه المبطلون على الجهلة والعامة الذين ليس لديهم علمٌ بالتاريخ، ولا يستقرؤون النصوص على حقيقتها.
أولا: ليس في التوراة أي أمر لبني إسرائيل باستقبال صخرة بيت المقدس. وعن ذلك يقول ابن القيّم رحمه الله تعالى: “وقد تضمن هذا الفصل فائدة جليلة، وهي: أن استقبال أهل الكتاب لقبلتهم لم يكن من جهة الوحي والتوقيف من الله، بل كان عن مشورة منهم واجتهاد”، وذلك في قوله: “فَكَانَتْ صَلَاتُهُمْ إلَى الصّخْرَةِ عَنْ مُشَاوَرَةٍ مِنْهُمْ”.
ثانيا: ذكر ابن القيّم في “بدائع الفوائد” أن اليهود كانوا ينصبون التابوت (المعروف بتابوت العهد) ويصلّون إليه من حيث خرجوا، فإذا قدِموا نصبوه على الصخرة وصلوا إليه، فلما رُفِعَ (التابوت) بعد أن غضب الله عليهم صلُّوا إلى موضعه وهو الصخرة”. ومعنى هذا الكلام أنهم كانوا يصلّون كيفما اتّفق، ومن أي مكان خرجوا، ولما نصبوه على الصخرة استقر رأيهم على المكان. فالمقدّس عندهم كان التابوت وليس الصخرة كما يزعمون. فلما رفع الله التابوت، جعلوا الصخرة قبلتهم لأنها كانت آخر عهدهم بالتابوت.
ثالثا: يلاحظ في النص الذي يورده المؤلفان قولهما: “كان سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لَا يُعَظّمُ إيلِيَاءَ كَمَا يُعَظّمُهَا أَهْلُ البَيْتِ”. وكأن المقصود بـ “أهل البيت” هم أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم. بينما في النصّ الأصلي أن سليمان بن عبد الملك لم يعظمها كما عظّما “أهل بيته” من بني عبد الملك.
(يتبع).