منارات في الفكر الإسلامي (6) والمشاريع الفكرية المميتة (لما بعد الحداثة)
د. محمود مصالحة
من خصائص الفكر الإسلامي تميزه “بالخصوصية الإسلامية” عقيدة وشريعة وثقافة وسياسة، و”بالهيمنة” على “الأيديولوجيات” العلمانية المادية، لمحدودية تلك الأيديولوجيات الوضعية، ونزعاتها الفكرية الضيقة، برزت هيمنة الفكر الإسلامي على تلك الأيديولوجيات بما يتمتع به من الخصائص الربانية والشمولية، والتشريع السماوي المنظم للحياة المادية، وتميز كذلك بعقيدة “الغيب الأخروي”، الإيمان بالله واليوم الآخر، وبخصيصة الثبات في الأصول.
إن سِعة النظرة الفكرية الإسلامية تبدو في مرونتها التشريعية في الجوانب الفرعية المذهبية في معالجة المسائل المستجدة التي تواجهها المجتمعات المسلمة، في الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية عبر العصور.
لكن بسبب تخلُّف المسلمين عن ركب الحضارة المادية جَثَم الاستعمار على كاهل شعوب الإمة، وفي تلك الحقبة تجلَّت القدرة الفكرية الإسلامية لتتخطى الجمود بما يمتلكه من ثقافة حضارية متأصلة بأصالة الجذور (القرآن الكريم والسنَّة النبوية الشريفة والتاريخ والحضارة الإسلامية) التي أكسبت المفكرين المعاصرين القدرة فتغلبوا على أزمات تخلف الأمة الإسلامية، ومن أشهرهم أحد قامات المفكرين الإسلاميين الفيلسوف الجزائري “مُنظِّر النهضة الإسلامية”، مالك بن نبي – مجدد الفكر الإسلامي المعاصر- (1905-1973م)، فأحدث نقلة نوعية في الفكر الإسلامي الحديث، وأسس مفاهيم ومصطلحات فكرية وفلسفية غير مسبوقة، من خلال استقرائه لأحداث ووقائع الحضارة الإسلامية، وكشف عن قوانين يمكن من خلالها استيعاب منحنيات التقدم والسقوط في المسار الحضاري الإسلامي، وقام مالك بن نبي بصياغة مفاهيم لمشكلات الحضارة الإسلامية، وكيفية النهوض بالأمة الإسلامية.
وقد بيَّن بن نبي فقيه الحضارة أن أسباب الإخفاقات التي مُنيت بها المجتمعات الإسلامية، يرجع إلى غياب مشروع حضاري إسلامي، وكذلك عدم فهم العقل العربي لخطورة الغزو الثقافي الفكري الاستعماري الذي به تُخْضَع إرادة الأمة تُسْتَلَب هويتُها، من خلال الممارسة الثقافية والحضارية الغربية، ولكن مجدد النهضة الشيخ حسن البنا واضع منهجية المشروع الإسلامي، ومرسي قواعده على أرض الواقع، بيّن عالميته البديلة للمشاريع الغربية من خلال رسالة الإسلام، فحوَّل الفكرة إلى مشروع الأمة في إقامة الدولة الإسلامية المدنية الحضارية العادلة.
وركز مالك بن نبي جهده في مجالي فكر النهضة والدراسات القرآنية، فقدم إسهامات بارزة لتجديد الفكر الإسلامي المعاصر، وأكد أن أزمة المجتمع المسلم، هي أزمة منهجية عملية بالأساس فصاغ نظريته في التغيير الاجتماعي على أساس مبدأ الفاعلية، والتصدي لما سماه “القابلية للاستعمار”.
وباجتهاداته الفكرية تكونت ضِمْن الأصالة مصطلحات عديدة منها: “الأفكار الميتة” و”الأفكار المميتة”، والعلاقة بينهما، وآثارها السلبية.
وأكد بأنه لا يكفي الاجتهاد وتقديم الرؤى المختلفة من أجل مواجهة تخلف الأمة، مؤكدًا على نظرية حضور الماضي دائمًا في الحاضر لكي يمده بالإمكانيات الخاصة ببنية المفاهيم الإسلامية الأصولية، ولكي يستطيع المفكِّر المسلم مواجهة كل صور الصراع الفكري عليه أن يكون موصول بالمنبت والجذور.
وبيَّن مالك، مَكْمَن الداء الذي جعل الفرد المسلم، يستسلم لأساليب الغزو الاستعماري الثقافي من خلال تحليل نفسية الفرد المسلم التي كونت عنده “قابلية للغزو الغربي” والاستعداد الداخلي للتخلي عن قيمه وهويته الذاتية، وعدم مجابهة ذلك اللون من الاستعمار.
ويؤكد مالك بن نبي في مقارنته للجيل الأول من المسلمين الذي ارتبط بالفكرة وبتطبيقها العملي، وبعد أن التزم بها المسلم تكونت ذاتيته العقدية والأخلاقية من خلال علاقة متبادلة بين الفكرة وسندها المحسوس وهو الإنسان، وبين ما يحدث في وقتنا الحاضر، ويقول: “علينا أن نسأل أنفسنا عما كان يمكن أن يحدث من المسلمين الأولين، لو أنهم بدلًا من أن يدعو إلى تحقيق مُثُلِهم العليا بالطريقة العملية، واكتفوا بصلاة داخل المسجد من أجل تحقيقه؟ والمؤكد في هذه الحالة إنهم ما كانوا ليغيروا الوسط الجاهلي”.
ويقول: “يجب على المسلم أن يحدد رسالته في العالم، وذلك عن طريق استقلاله الأخلاقي عن المجتمعات التي لا تتفق مع مُثُلِه العليا ومبادئه، لكي يستطيع أن يواجهها رغم فقره أو ثرائه وهي مسؤلياته الأخلاقية والمادية” ” كتاب(مشكلة الحضارة والصراع الفكري في البلاد المستعمرة)، مالك بن نبي.
أمَّا المسلم اليوم، لن يستطيع مواجهة هيمنة الغرب، إلا إذا تسلَّح وتمسَّك بعقيدته وثقافته الإسلامية وأخلاقياته.
وقد طرح مالك بن نبي فكرة الكومونولث الإسلامي، لدول الإسلامية في كتابه “الكومنولث الإسلامي” عام 1960م.
وهذا أحد قامات الفكر الإسلامي العلامة، فيلسوف الإسلام “أبو الأعلى المودودي”، مؤسس الجماعة الإسلامية في باكستان، وباعث النهضة الفكرية والإسلامية في أنحاء العالم، والمنظِّر الناقد لأطروحات تيارات التبعية الثقافية الغربية، وكاشف عوار الحضارة الغربية، والتيارات التي تدعو للحاق بركب الثقافة الغربية بخصائصها الإلحادية وقيمها النفعية المتغيرة، والنسبية التي لا تعرف مقاييس الخير والشر، فقيمها قائمة على إشباع اللذة والمنفعة الفردية والقومية، فاللحاق بها يعنى ذوبان الشخصية والهوية الإسلامية، ومن ثم اندثار المجتمعات الإسلامية، لذلك يقتضي رفض تلك الأيديولوجيات الفكرية الثقافية الغربية المميتة للروح والجسد، فالمودودي دعا لرفضها بكل شموخ، وقال: “أيها المسلمون.. احملوا القرآن، وانهضوا، وحلقوا فوق العالم.. فليس من شأننا أن نلهث وراء العالم، بل علينا أن نشده إلى مبادئنا وأصولنا…” والاعتزاز بفوقية هوية الذاتية الإسلامية، وكذلك دعا لنبذ الجمود الفكري عند بعض التيارات الإسلامية. وهكذا كانت عبقرية هذا العالم المفكر الإسلامي المعاصرة.
خلاصة القول: إن الأمة الإسلامية ولاّدة ما فتئت تمتلك قامات جليلة من العلماء المفكرين الإسلاميين القادرين على مواجهة أصحاب الفكر الغربي الذين يسعون للتخلص من مليارات من البشر بمشاريعهم الفكرية المميتة، كالشذوذ الجنسي والفكر الثقافي الجندري المميت في اتفاقية سيداو المؤدي إلى انقراض البشرية، والداعمين من أصحاب الفكر العربي القومي الليبرالي والاشتراكي الذين أماتوا بفكرهم نهضة الأمة، وشتتوا هويتها ووحدتها، فتخلفت قرنًا عن ركب الحضارة، وتجرعت الشعوب مرارة الهزائم، وعار التبعية لصالح للمستعمر، فباتت مستباحة عندما أزاحوا بالقومية الفكرة العلمانية الغربية الإسلام عن تسيير حياة الأمة.