معركة الوعي (145) حول بعض ما جاء في كتاب “قدس أقداسنا/ قدس أقداسهم” ليتسحاق رايتر ودفير ديمنت (3)
حامد اغبارية
المقال الثالث من مناقشة ما جاء في كتاب “قدس أقداسنا/ قدس أقداسهم- الإسلام، اليهود وجبل الهيكل” للمستشرقيْن اليهودييْن يتسحاق رايتر ودفير ديمنت. ورايتر هو رئيس الجمعية الإسرائيلية لدراسات الشرق الأوسط ومحاضر في كلية القاسمي في باقة الغربية، وشغل في السابق نائب مستشار رئيس الحكومة للشؤون العربية في حكومات بيغن وشامير وبيرس. أما ديمنت فهو باحث مختص في سياسات الشرق الأوسط والإسلام. وقد صدر الكتاب عام 2020 باللغة الإنجليزية، وترجمه إلى العربية عمر واكد.
1- جاء في كتاب رايتر وديمكنت (ص19): “في الفترة الأموية، نهاية القرن السابع، بدأ استعمال التفسير القائل إن المسجد الأقصى المذكور في القرآن موجود في القدس في مكان معروف في الثقافة اليهودية والمسيحية على أنه بيت المقدس أو جبل الهيكل. في هذه الفترة جرى تأليف أدب فضائل القدس وبضمنه حديث “شد الرحال” المنسوب إلى النبي محمد” (صلى الله عليه وسلم).
أولا: استخدام لفظ “منسوب إلى فلان” هو تشكيك في أن فلانًا قد قال ذلك فعلا. وهكذا نجد أن الكتاب يحاول حتى التشكيك في حديث شد الرحال الذي أجمعت على صحته كل كتب السنّة. أضف إلى ذلك أن الكتاب يلمّح إلى أن تأكيد علاقة المسلمين بالقدس بدأ الحديث عنها في نهاية القرن السابع الهجري، ما يعنى أنه قبل ذلك التوقيت لم يكن هناك حديث عن هذه العلاقة، أو أنه لم تكن هناك علاقة أصلًا! وكأن المسلمين ابتدعوا هذه العلاقة في مرحلة متأخرة!!
يحاول الكتاب الإيهام بأن حديث “شد الرحال” ظهر فجأة في تلك الفترة، بينما فات المؤلفيْن- أو أنهما تعمّدا ذلك- بأن تدوين الأحاديث النبوية وقع في الفترة الأموية، وتحديدا في فترة الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في منتصف القرن الثاني الهجري، وفي هذه الفترة وما بعدها نشأ علمُ الحديث من تدوين وتصنيف وعلم السّنَد والجرح والتعديل وعلم الرجال وغير ذلك مما ساهم في تطهير الأحاديث من الموضوعات. من أين جاء رواة الحديث وجامعوه أمثال البخاري ومسلم ومالك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم بالأحاديث؟ لقد جمعوها من أفواه رواتها من الذين حفظوها ظهرا عن قلب عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا يعني أن هذه الأحاديث كانت موجودة مشافهةً أصلا وبداية من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تظهر فقط في العصر الأموي، وإنما دُوِّنت في تلك الفترة، بما فيها حديث “شد الرحال” وأحاديث فضائل بيت المقدس وغيرها.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى قصة الإسراء والمعراج، التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما رجع من بيت المقدس إلى مكة وأخبر بالإسراء به وبالمعراج كذّبه المشركون، إذ استبعدوا حدوث ذلك في ليلة واحدة، مع بُعد مسافة بيت المقدس عن مكة. فأثبت لهم النبي ذلك عندما وصف لهم بيت المقدس بيتا بيتا وحجرا حجرا وشجرة شجرة كما هي على الحقيقة. وكان أهل مكة تجارًا ويعرفون بيت المقدس حقَّ المعرفة، فعرفوا أن النبي قال صدقا، وهم يعلمون أنه لم يزر بيت المقدس قبل ذلك. هذا يعني أن علاقة المسلمين بالقدس بدأت من الفترة الأولى للبعثة النبوية، وفي أصعب الظروف التي واجهها النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، ولم تأت متأخرة كما يحاول الكتاب أن يوهم القارئ البسيط، علما أن الكتاب في نسخته الأصلية موجّه أساسًا للقارئ اليهودي والأجنبي الذي لا يعرف شيئا عن التاريخ، خاصة الإسلامي، وذلك بهدف إقناعه برواية اليهود فيما يخص المسجد الأقصى والهيكل المزعوم. وليس أفضل من استجلاب “روايات” إسلامية لإثبات ذلك!!
2- جاء في الكتاب أن عبد الملك بن مروان رأى بنفسه مسيحًا من سلالة داود يُعيد بناء هيكل سليمان، كما يزعم عميكام إلعاد في كتابه “مكانة القدس في العصر الأموي”. وكما هو معروف فإن إلعاد هو مستشرق له وجهة نظر، ويستند في مواقفه على مستشرقين غربيبين. وفي حالتنا فإنه يتبنّى خط المستشرق الغربي جولدتسهير، المعروف بمحاولاته تشويه صورة الإسلام والطعن به، مقارنة مع مستشرقين منصفين. فجولدتسهير يزعم أن عبد الملك بن مروان بنى قبة الصخرة لأسباب سياسية جراء خلافهِ مع عبدالله بن الزبير الذي سيطر على مكة المكرمة. وقد أراد عبد الملك أن يحوّل مسار الحج من مكة إلى القدس، ولذلك عمل على أن يجعل لبيت المقدس قدسية لدى المسلمين!! وحتى لا يتمكن ابن الزبير من كسب تأييد الشاميين له أثناء خروجهم للحج!! وبطبيعة الحال، كما هو واضح في كتابه، فإن إلعاد يتبنى وجهة نظر جولدتسهير.
وحقيقة الأمر أن هذه التبريرات لبناء قبة الصخرة لا أصل لها، وإنما هي من بنات أفكار المستشرقين، الذين لم يدرسوا شخصية عبد الملك بن مروان دراسة حقيقية ومنصفة. فعبد الملك بن مروان تربي في المدينة المنورة، التي وُلد فيها، تربية إسلامية، وكان واسع المعرفة، شغوفا بالعلم، متعلقا بالقرآن الكريم. ذلك على عكس ما صوره المستشرقون. كما أنهم لا يعرفون أو يتجاهلون أن عبد الملك لم يبن قبة الصخرة فقط، بل أنشئت في عصره مبان عمرانية كثيرة في مدينة القدس، ضمن مشروع ترميم المدينة المقدسة التي هي مسرى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي سائر بلاد فلسطين. والمعالم الأثرية تؤكد ذلك بما لا يدع مجالا للشك.
وهكذا كان الهدف الرئيسي للخليفة هو تعزيز وتشجيع وتسهيل شدّ الرّحال إلى القدس والمسجد الأقصى، والذي يتوافق مع تقليد النبي صلى الله عليه وسلم، بالإضافة إلى أعمال بعض الصحابة الأوائل الذين تحمّلوا أحيانًا عناء السفر إلى القدس، وبعضهم استقر هناك ومات فيها. فالاهتمام بالقدس والأقصى كان قديما قبل عبد الملك بن مروان، باعتبار ذلك جزءا من التواصل مع مكانٍ مقدس للمسلمين.
وكان عبد الملك يعلم جيدًا أنه زمن الخليفة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه بُني مسجد بسيط على جانب واحد من الحرم باستخدام مواد البناء الأكثر سرعة (الخشب)، علاوةً على ذلك كانت المنطقة نفسها محاطة بالعديد من الكنائس التي كان بعضها فخما بشكل ساحر، ومشهورًا بروعته التي أبهرت أذهان المسلمين، فأراد عبد الملك بناء قبة كبيرة ومرتفعة لتكون ظاهرة وسط الكنائس. أما مقولة أن عبد الملك رأى بنفسه مسيحا من سلالة داود يعيد بناء هيكل سليمان فهذه من اختراعات وتحليلات إلعاد والمستشرقين أمثاله، وليس هناك نص تاريخي يشير إلى هذا أو يلمح إليه تلميحا، سوى في كتابات المستشرقين. ناهيك عن أنني أشرت إلى أن سليمان عليه السلام إنما رفع بناء المسجد الأقصى ورعاه وصانه ضمن رسالة الأنبياء جميعا، ولم يبنِ هيكلا مستقلا في ذلك المكان، وقد فصلتُ في هذا سابقًا.
ولو أنك سألت مسلما عاديا عن تحويل الحج من مكة إلى الأقصى لأسمعك كلاما لا تطيق سماعه، فكيف بخليفة المسلمين عبد الملك بن مروان المعروف بتقواه، ولا يمكن أن يتحمل تبعة هذه الجريمة، ولا أن تتنزل عليه لعنة تحويل الحج من مكة إلى القدس!
أضف إلى ذلك فإنه على الرغم من أن عبد الملك بنى قبة الصخرة بينما كانت مكة تحت سيطرة ابن الزبير فإن الحج إلى مكة لم يتوقف، بل استمر، وخرجت من الشام (مقر خلافة عبد الملك) قوافل الحج مثل سائر بلاد المسلمين.
3- أما ما جاء في الكتاب اقتباسا من “فضائل القدس” لابن المرجي من أن كعب الأحبار أصاب في بعض الكتب أنه مكتوب فيها: أبعث إليك عبدي عبد الملك يبنيك ويخزفك. فهذا من الإسرائيليات، التي يمتلئ بها كتاب ابن المرجي. وفيما يلي النص كاملا:
(….عن أبي الطاهر أحمد بن محمد الخراساني بسنده عن كعب قال: أصاب كعب الأحبار مكتوبًا في بعض الكتب: أبشروا شلائم، وهي بيت المقدس والصخرة، فقال لها: الهيكل، أبعث إليك عبدي عبد الملك يبنيك ويزخرفك، ولا أردن (ولأردنّ) إلى بيت المقدس ملكها الأول، ولأكلّلنه بالذهب والفضة والمرجان، ولأبعثنّ إليه خلقي، ولأضعنّ على الصخرة عرشي، وأنا الله الرب، وداود ملك بني إسرائيل). والإسرائيليات لا يؤخذ بها في الإسلام، فهي متروكة لا تُعتمد ولا تُعتبر مصدرا لا للتشريع ولا للتأريخ ولا لغيره. ومنها ما هو موجود أيضا في كتاب “تاريخ الرسل والملوك” للطبري.
4- في ص28 من الكتاب: (ويمكن الإضافة أن عبد الملك بن مروان يرى في الإسلام مكمّلا لليهودية، ولذلك يأخذ المسلمون على عاتقهم الانتقام لليهود من النصارى). وهذا كلام عجيب لا أصل له.
أولًا: الإضافة من المؤلفيْن، وليس لها سند تاريخي، بل هي من عندياتهما. والسؤال: لماذا يحتاج المؤلفان مثل هذه الإضافة طالما أن عندهما من “الروايات” التاريخية و “الأحاديث” ما يدعم موقفهما؟ السبب واضح: إنهما يريدان إثبات نظرية وجود هيكل مكان قبة الصخرة، وأن بناء القبة جاء انتقاما لليهود من النصارى. ما أعجب هذا الكلام! بينما نصت العهدة العمرية عن سلم بين المسلمين والنصارى، وفيها أنه لا يسكن بيت المقدس يهودي. فكيف يسعى عبد الملك إلى نقص العهدة العمرية وينتقم لليهود من النصارى؟ إن هذا الكلام لا أصل له ولا سند.
أما الادعاء بأن عبد الملك رأى بالإسلام مكملا لليهودية، فهذا باطل من أصله، لسبب. فالإسلام جاء متمما لجميع الرسالات والشرائع التوحيدية (التي جاءت كلها بالإسلام، إذ ليس عند الله دين إلا الإسلام، كما نبّهت سابقًا) التي جاء بها جميع الأنبياء من لدن آدم عليه السلام، بمن فيهم إسحق ويعقوب ويوسف وزكريا ويحيى وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، وسائر أنبياء بني إسرائيل. وكان موقف الإسلام من اليهود والنصارى أنهم حرّفوا التوراة والإنجيل وأنهم على باطل، ولم يحفظوا العهود التي أعطوْها لموسى وعيسى عليهما السلام، فجاءت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لبيان الحق وكشف الباطل الذي كان عليه اليهود والنصارى. والقول إن “الإسلام مكمّل لليهودية” يوهم بأنهما على ذات المسار. وهذا باطل. وآيات القرآن الكريم التي تُظهر بطلان اليهودية (والنصرانية) وانحراف بني إسرائيل عن رسالة موسى ومِن بعده عيسى عليهما السلام كثيرة. (يتبع).