تقرير: هل مثّل مونديال قطر نهاية عقيدة العلمانية؟
شهر كان كافيا لاختبار قدرة العقيدة العلمانية على الصمود، بعد أن كانت العقود الماضية محطات لكشف تناقض عقلها النظري، واضطراب معاييرها، ونفاق الممارسات الصادرة من أرضيتها.
كثيرون التفتوا فقط إلى الجانب النقدي للممارسة العلمانية، وكيف تسوغ الدول الغربية لنفسها ما لا تسوغ لغيرها، وكيف تستغل مقولة الاختلاف، وتقتحم المعادلات الثقافية العربية، وتخترقها وتفكك بنيتها، وكيف ترتد إلى عكس سلوكها حين يتعلق الأمر بحق الشعوب الأخرى في الاختلاف داخل أرضها.
لكن هذا الجانب النقدي ليس جديدا، فقد كان محور الجدل الذي غطى عقودا من الزمن، بل كان هذا هو الجو الذي خيم على الأجواء، وأنتج أجيالا من المسلمين في أوروبا، يخترقها التناقض الذي رسخته الممارسات العلمانية لدول أوروبا، بين الحرية التي تكون متاحة عندما تخدم القيم العلمانية، والتي تصير مصادرة حين يتعلق الأمر بالحق في المعتقد والفكر بل وحتى في الممارسة والطقوس والزي. وبين الاختلاف الذي يكون محبذا، بل ومدعوما ببرامج حكومات ومنظمات غربية لتوطين وظواهر قيمية غريبة عن المجتمع العربي والإسلامي، والاختلاف الذي يكون مناهضا من قبل لوبيات غربية تدعي أن أقلية أو فئات محددة من الشعب تهدد هوية المجتمع، وتهدد لحمة الوطن، إذا ما اتخذته شعارا تستمد منه شرعيتها في الفكر أو الممارسة، ولو لم تكن مؤثرة على المجموع.
التقدير أن هذا الجانب النقدي، صار جزءا من التاريخ، أو بالأحرى جزءا من صراع قديم من أجل العدالة، وأن الجديد اليوم، هو شيء آخر، تماما، تجاوز منطق الصراع وإثبات مظلومية الشعوب العربية الإسلامية أو القهر الذي يمارس باسم معايير انتقائية غير عادلة. فكل القيم والأفكار والرموز والممارسات التي ظهرت في مونديال قطر، تكشف نهاية العقيدة العلمانية، وعدم قدرتها على تأطير الشعوب وتوحيدها وصهرها، بل أثبت مونديال قطر، أن شرائح واسعة من شعوب الدول الغربية التي جاءت من أجل المتعة والفرجة في قطر اندمجت في منطق مختلف، وصارت ترى فيه الأقرب إلى تمثيل الفكرة الإنسانية، وهي التي خضعت لسنوات طويلة لتنشئة تربوية على أرضية من النموذج الغربي، وتحت طرق آلة الإعلامية الغربية الضخمة.
خسارة النموذج العلماني في المعركة على الفضاء العام
راهن النموذج العلماني مبكرا على احتلال الفضاء العام، وتأطيره بمفاهيمه ونماذجه وتعبيراته، وحاول أن يؤسس لقيم زعم أنها قيم حقوقية كونية، وحاول أن يفرضها كمنظومة قيمية مؤطرة لمختلف نواحي الفضاء العام، بما في ذلك الإطار التشريعي والقانوني، الذي يرسم حدود الفضاء العام ونمط العلاقات التي تنظم مكوناته.
وقد اشتغل طيلة العقود السابقة على مسارين متزامنين، الأول، وهو احتكار الفضاء العام، وتأطيره بالكامل. والثاني، هو منع أي جهة أخرى مغايرة للنموذج العلماني من اقتحام الفضاء أو المشاركة فيه، إذ استعمل النموذج العلماني، أقسى السلط القهرية لمحاصرة النماذج المختلفة، واستعمل حججا مختلفة، مرة باسم مناهضة الإرهاب والتطرف، ومرة أخرى باسم مناهضة العنصرية وثقافة الحقد والكراهية، وتارة باسم مناهضة المعاداة للسامية، وتارة أخرى باسم مناهضة التقليد.
وإذ كانت السمة الغالبة على النموذج العلماني هي احتكار الفضاء العام والاستفراد به، ومنع مشاركة الآخرين فيه، والاكتفاء بدلا عن ذلك بتشجيع نوع من الفلكور الذي يعطي شرعية لمفهوم مشوه للاختلاف، فإن السلاح الأكبر الذي استعمله هذا النموذج في تحقيق أهدافه، هو محاصرة الدين في المجال العام، ومنع انسياب قيمه ومعاييره ونماذجه بأي شكل من الأشكال.
اعتمد النموذج العلماني على مفهوم واسع للفضاء العام، فهو لا يعني عنده فقط المجال العام القطري، الذي تتصرف فيه السياسة ومختلف الأنشطة التي تؤثر في الجمهور وتصوغ مزاجهم وأذواقهم واختياراتهم، بل، اشتغل في إطار غربي متضامن على توسيع هذا الإطار، ليشمل مختلف التكتلات والتجمعات الدولية، التي يهمين الغرب على قرارها، سياسية كانت أم اقتصادية أم تجارية أم ثقافية إعلامية أم رياضية أم بحثية أكاديمية. فحضر النموذج العلماني بقيمه ونماذجه ومعاييره في كل هذه الفضاءات، وأصبحت الشعوب المنخرطة في هذه التكتلات، خاضعة لهذا النموذج وقيمه، حتى وهي تنطلق من منظومات ثقافية أخرى، ربما هي على العكس تماما من هذا النموذج.
بات النموذج العلماني مهزوما، لأنه يقوم على فكرة الفرد الذي ينبي نفسه باستقلال عن العائلة والأسرة، ولأنه يبني نمط علاقاته الإنسانية على مفهوم مغاير لاختلاف وتكامل أدوار الجنسين
الجديد في مونديال قطر الذي يرسم صورة واضحة عن أحد قنوات هذا الفضاء العام (الفضاء الرياضي)، هو هزيمة هذا النموذج العلماني، وتراجع كبير لمفاهيمه وقيمه ونماذجه، وعجزها بالكامل على إلهام الشعوب وتحريكها، وقيام نموذج آخر بهذا الدور الملهم، وتحقيقه لأعلى مستوى من الاستقطاب العالمي.
والمثير في هذا الفضاء الرياضي، أنه أصبح مفتوحا ومؤثرا على الفضاءات الأخرى التي تتداخل معه، الإعلامية والثقافية والسياسية والتجارية والاقتصادية، بحكم الرهانات التي أصبحت اليوم على الرياضة.
وإذا كان لا بد من تسجيل مؤشرات قيمية لهزيمة هذا النموذج، فإنه لا ينبغي الاقتصار على مؤشر واحد، هو هزيمة الأجندة المثلية، وما رسخ في تمثلات الجمهور الواسع، من ارتباط هزيمة ألمانيا في المونديال، برهانها على أجندة قيمية شغلتها عن أداء مهامها الحقيقة في التنافس الرياضي، فهذا لا يمثل في الجوهر سوى الجانب البسيط في الموضوع، إذ عادة غير المدققين أن يلتفوا إلى الأشياء المحرجة التي تثير حساسية شديدة بسبب صدمها للشعور العربي الإسلامي. لكن الجانب الأهم في الموضوع، يهم القيم الأخرى المركزية، التي تتفاصل عندها النماذج وتختلف، ونخص بالذكر، حضور الدين في الفضاء العام، والتركيز على مختلف المؤسسات والممارسات والطقوس والأزياء التي تنطق من أرضية الدين.
لن يجادل أحد أن الأسرة والعائلة كانت بؤرة الصراع في هذا المونديال، فبينما وصلت آخر تقليعات النموذج العلماني إلى إنهاء دور الأسرة النووية، بالانطلاق من فكرة الاختلاف في الميول الجنسية والعاطفية، وتسويغ فكرة المثلية، عادت مؤسسة الأسرة، بمكوناتها الدينية (زوج وزوجة)، وبوظائفها التقليدية (دور الأم في التربية)، وبنماذجها القيمية (التدين)، ودلالاتها الاجتماعية (التماسك والتضامن)، وشكلت نسفا فلسفيا للنموذج العلماني القائم على فكرة الفردية والجندرية ونسبية الوظائف الاجتماعية وخضوعها لمنطق التحول الاجتماعي.
فقد بات النموذج العلماني مهزوما، لأنه يقوم على فكرة الفرد الذي ينبي نفسه باستقلال عن العائلة والأسرة، ولأنه يبني نمط علاقاته الإنسانية على مفهوم مغاير لاختلاف وتكامل أدوار الجنسين، إذ يؤسس لمفهوم النوع، الذي لا توجد فيه مفارقات بين الجنسين، وإنما تبرر الشروط الثقافية والاقتصادية والسياسية التمايز الموجود في الوظائف.
لقد انهزم هذا النموذج بالمطلق لأنه ينسف مفهوم الأمومة، وينسف تبعا لذلك مفهوم الأسرة، فانتقمت هذه المفاهيم وهذه القيم في مونديال قطر، وصارت هي مصدر الإلهام، حتى أصبحت شرائح واسعة من المجتمع الأوربي الذين جاؤوا للفرجة والمتعة، في مركز الاستقطاب من قبل هذه القيم الجديدة عن تمثلاتهم، بما تشكله من شحنات قيمية واجتماعية وعاطفية.
هزيمة الثقافة العلمانية
تبنى النموذج العلماني سلاحا فتاكا لمصادرة حق الشعوب في الاحتماء بثقافتها وقيمها، وقام بعملية تصنيفية، جعلت الثقافة الغربية وتوابعها الذيلية هي النموذج المؤمن للاختلاف والتسامح والتعايش، وجعلت الثقافات الأخرى المختلفة، نماذج للثقافات التقليدية الإقصائية التي تتسم بنبذ الاختلاف والتسامح والتعايش وتشجيع الحقد والكراهية والإقصاء والعنف والتطرف.
وقد بذلت بعض الدول الغربية حملات كبيرة من أجل تشويه قطر، وهي في الواقع، كانت تستهدف ثقافة المجتمع العربي الإسلامي، وتحاول أن تثبت تمثلاتها التي حاولت تسويقها عبر مختلف قنوات الفضاء العام الذي تحتكره، وكان منطلق هذه الحملة هو الإيحاء بأن كأس العالم بدون كحول يشكل ضربة قوية للحرية وقيم الاختلاف، وأن ذلك يشكل نكسة كبيرة للحداثة ونماذجها المختلفة.
والواقع، أن شهرا من تعايش الشعوب المختلفة في قطر، وظهور قصص ومرويات عن القيم العربية الأصيلة (كرم الضيافة، التسامح، التعايش، التعارف، حسن التعامل، احترام ثقافات الشعوب ودياناتها، الاستيعاب..) فضلا عن تطور وسائل الخدمات الاجتماعية ويسرها ومجانية بعضها، كل ذلك عرى النموذج العلماني، وأعطى صورة جد مشرقة عن النموذج القيمي العربي الإسلامي وقدرته على تأطير الشعوب ومحاورتها، بحيث أصبح أشد المنتصرين لفكرة تناول الكحول، يسوق فكرة إيجابية عن تنظيم كأس عالم من غير كحول، وأصبح أشد المتخوفين من تنظيم كأس العالم في الدول العربية، ينتصر لفكرة أن مونديال قطر يمثل أحسن نسخة لهذا الكأس، ليس بسبب الفرجة الكروية فقط، وليس أيضا بسبب جودة وروعة التنظيم، ولكن أيضا، بسبب القيم الجديدة التي تعرف عليها الجمهور المختلف، والتي سمحت لهم بالتعرف على نموذج غني وثري يختلفون معه، لكنهم يرون فيه قدرة على الاستيعاب والمحاورة من غير إقصاء ولا مصادرة كما هي عادة النموذج العلماني.
هزيمة التطبيع والكيان الصهيوني
قد تبدو العلاقة غريبة نوعا ما بين العلمانية وبين الصهيونية، لكن سواء تعلق الأمر بتفكيك النموذج العلماني فلسفيا، أو بتتبع سلوكه السياسي، فإن الصهيونية هي الثمرة الطبيعية للنموذج العلماني، والتطبيع هو الناتج عن تسويق النموذج العلماني عربيا.
لقد أثبت مونديال قطر، أن الكيان الصهيوني، هو الكيان الذي لا أب له ولا أم، ولا نصير له ولا داعم، وأنه النموذج الأسوأ في العالم، وأن كل سهام الشعوب توجه إليه، وأن الشعوب لا تمقت شيئا آخر أكثر مما تمقته.
البعض يعتبر أن رفع راية فلسطين هي المؤشر الكبير على ذلك، لكن في الواقع، لا يتعلق الأمر فقط بمجرد علم، بل بمشاعر، وقيم، وتعبيرات، وطقوس، ورموز دالة، كلها تعكس العمق الفلسطيني في وجدان شعوب العالم، وغياب الكيان الصهيوني بالمطلق عن ساحة القيم والمشاعر والرموز والتعبيرات إل مشاعر الاستهجان له، والتنديد بممارساته.
لقد أثبت مونديال قطر، أن الكيان الصهيوني، هو الكيان الذي لا أب له ولا أم، ولا نصير له ولا داعم، وأنه النموذج الأسوأ في العالم، وأن كل سهام الشعوب توجه إليه، وأن الشعوب لا تمقت شيئا آخر أكثر مما تمقته.
من المهم أن نقرأ بعض تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، الذين اعتبروا نسخة قطر زلزالا عنيفا دك مواقعهم، ونسف وجودهم بالكامل من الخارطة، لكن ما ينبغي الاهتمام به أكثر، ليس تنديهم برفع الأعلام الفلسطينية فقط، بل تأكيدهم على فشل التطبيع بالكامل، وغياب أي تأثير له على الشعوب العربية، بما في ذلك شعوب الدول العربية التي اختارت التطبيع في سياقات مخصوصة.
ينبغي الاهتمام بهذه التصريحات، ليس فقط من زاوية أنها تبين المسافة البعيدة ين الحكام العرب وبين شعوبهم، ولكن من زاوية الشك الصهيوني من إمكانية نجاح التطبيع، حتى على مستوى سياسي، إذ إنهم يدركون أن القرار السياسي الذي لا يجد أساسا في ثقافة الشعوب وقيمه ورموزها وتمثلاتها، مآله إلى التغيير بتغير الظروف والاعتبارات المصلحية للدول، وهذه هي أكبر هزيمة للصهيونية، بل أكبر هزيمة للنموذج العلماني، الذي شحذ كل قيمه ومفاهيمه وتعبيراته، من أجل الدفاع عن وليد لقيط أنتجته الرأسمالية ألأوربية هو الصهيونية.
هل كان حضور ماكرون له علاقة بالنموذج العلماني؟
مهم أن نطرح هذا السؤال، لأن فرنسا تمثل النموذج المعياري للعلمانية، فهي الذي أسست له فلسفيا وفكريا، وهي التي سبقت في تمثله دستوريا وقانونيا، وهي تمثل اليوم أشد النماذج العلمانية راديكالية ضمن الدول الغربية.
في الوقع ثمة قراءات كثيرة، حاولت تفسير سبب حضور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمباراة نصف النهاية على الرغم من الانتقادات الواسعة لهذه الزيارة من قبل نخب كثيرة من المجتمع الفرنسي.
البعض حاول أن يقرأ هذا الحضور من زاوية السياسة، فماكرون راكم خيبات كثيرة في سياسته الخارجية، فتراجع النفوذ الفرنسي في إفريقيا، ولم يعد له أي تأثير في دول المتوسط، وفشل دوره باريس في لبنان، وفشلت كل جهوده في الوساطة بين روسيا وأوكرانيا، واليوم، ينظر قطاع واسع من الشعب الفرنسي إلى تأثير سياسته على القدرة الشرائية الفرنسية، وأن هذه النكسات على مستوى السياسة الداخلية والخارجية، هي التي جعلته يسارع إلى البحث عن انتصار يحاول أن يتشبث به ليغطي بعه على خيباته المتكررة.
لا أميل إلى هذه القراءة، رغم أن مسبباتها قد تكون جزءا من حسابات ماكرون السياسية، لكني أميل إلى قراءة أخرى تنطلق من واقع هزيمة النموذج العلماني، ورغبة ماكرون من خلال زيارته لقطر وحضوره لمباراة في البحث عن انتصار كروي، يعيد الاعتبار لرمزية النموذج الراعي للعلمانية، لاسيما وأن دور المغاربة في مونديال قطر كان مركزيا في نسف النموذج العلماني.
ما يؤكد ذلك هو حجم النقاش الإعلامي والفكري الذي ثار في فرنسا قبيل مواجهة المغرب، والحديث عن الأبعاد الثقافية والفكرية والقيمية والدينية والسياسية لهذه المباراة، واحتدام النقاش حول أبعاد الهوية الفرنسية، والتمزق الذي يخترق المجنسين والعرب الذين ولدوا في فرنسا، وكيف يميلون للدفاع عن بلدانهم الأصل، في الوقت الذي كان يفترض فيه أن يلعب النموذج التربوي الذي تنشأوا عليه على طمس هويتهم السابقة والانتصار للنموذج العلماني الذي تمثله الهوية الفرنسية.
في خضم هذا النقاش، وبعد أخطاء السياسة الأمنية الفرنسية في مواجهة فرنسيين احتفلوا بانتصار المنتخب المغربي، جاء حضور ماكرون لمباراة فرنسا ضد المغرب، لتحويل مباراة في الرياضة إلى سلاح لإنقاذ النموذج العلماني.
من المثير جدا، أن يتحول ماكرون إلى محلل رياضي في نهاية المباراة، لكن كشفه عن حالته النفسية قبيل المباراة وبعدها، وحديثه عن التوتر الكبير الذي لازمه قبل المباراة، يؤشر على الرهان العالي الذي كان عند الرئيس الفرنسي على هذه لمباراة، لإنقاذ النموذج العلماني، لكن ليس بسلاح قيمه ونماذجه وقدرتها على تأطير العالم وتحريكه وإلهامه، ولكن بسلاج فوز الفريق الفرنسي على الفريق المغربي.