ثالث مستخدم للفرنسية.. لماذا ترفض الجزائر العضوية بمنظمة الفرنكوفونية؟
في وقت شهدت فيه الجارة تونس مطلع الأسبوع انعقاد الدورة الـ18 للقمة الفرنكوفونية بمشاركة 90 وفدا دوليا -بينهم 31 من كبار قادة المنظمة- فضل الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون حضور افتتاح مونديال كأس العالم في قطر، مكرسا قرار الجزائر مقاطعة المنظمة منذ تأسيسها عام 1970.
واقتصر حضور الجزائر سابقا في قمم المنظمة الدولية للفرنكوفونية على صفة ملاحظ كضيفة خاصة منذ مشاركة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في بيروت عام 2002.
يحدث ذلك فيما تعتبر منظمة الفرنكوفونية الجزائر ثالث بلد فرنكوفوني في العالم بعد فرنسا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، إذ يتحدث أكثر من ثلث سكانها الفرنسية، وفق آخر تقرير (2022) صادر عن المنظمة.
وفي حديث على هامش قمة تونس الأخيرة، اشتكى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من وضع اللغة الفرنسية في المنطقة المغاربية، قائلا “من الضروري أن نكون واقعيين، الفرنكفونية تتوسع في بعض البلدان، ولكن هناك أيضا نكسات حقيقية”.
وأوضح أن “نسبة استعمال الفرنسية اليوم في البلدان المغاربية أقل مما كانت عليه قبل 20 أو 30 عاما”، مرجعا الأمر إلى “أشكال من المقاومة شبه السياسية، إلى جانب سهولة استخدام الإنجليزية”.
ودفع هذا “الواقع المتناقض” مجلس الشيوخ الفرنسي منذ 22 فبراير/شباط 2017 إلى التساؤل: كيف للجزائر -التي تسجل انتشارا واسعا للغة الفرنسية- ألا تكون عضوة داخل المنظمة العالمية للفرنكوفونية؟
ظاهرها ثقافي وخلفيتها استعمارية
وللإجابة عن تساؤل التقرير الفرنسي، يرد الوزير السابق للثقافة والاتصال في الجزائر محيي الدين عميمور بأن الفرنكوفونية استنساخ مشبوه لفكرة الكومونولث الذي ابتكرته بريطانيا لتحتفظ بسيطرة إمبراطورية على مستعمراتها السابقة بعنوان اقتصادي براق هو “الثروة المشتركة”.
وقال عميمور في تصريح للجزيرة إن فرنسا قامت بأمر مشابه للمملكة المتحدة لكنها جعلت عنوانه اللغة، والهدف واحد، لكنه أكثر خبثا وأقل ذكاء، على حد وصفه.
ومن هنا جاءت حساسية الجزائريين من المنظمة الدولية للفرنكوفونية، ولم يكن هذا مجرد وهم، فقد ورد في الموقع الرسمي لها أن “الفرنكوفونية تمثل مجالا من أكبر المجالات اللغوية العالمية، فهي ليست مجرد تقاسم لغة، لأنها تعتمد أيضا على أساس الاشتراك في القيم الإنسانية التي تنقلها اللغة الفرنسية”، ويمثل هذان العنصران الدعائم التي ترتكز عليها المنظمة الدولية للفرنكوفونية”، حسب عميمور.
ويرى المتحدث أن تعبير “القيم الإنسانية التي تنقلها اللغة الفرنسية” ليس مجرد تعبير بلاغي، بل إن التفكير فيه بعمق يمكن أن يفضح تناقضه مع الانتماء العربي الإسلامي للوطن الجزائري، ويصبح الهدف هو ربط الدول الأعضاء في المنظمة بفرنسا سياسيا واقتصاديا وفكريا، ومن هنا رفضت الجزائر تماما الانضمام إلى منظمة ظاهرها ثقافي وخلفيتها استعمارية محضة، على حد تعبيره.
وأوضح أن الجزائر المستقلة منحت اللغة الفرنسية في سنوات معدودة وجودا يتجاوز عشرات المرات ما أعطاه لها الاستعمار الفرنسي خلال 132 سنة حتى تكون جسرا بين الثقافتين العربية والفرنسية.
لكن السوسة المدسوسة -حسب عميمور- نجحت في تحويل الفرنكوفونية إلى “فرنكوفيلية” (حب لفرنسا) ثم إلى “فرنكومانية” (ولاء فرنسي) حتى بلغت الآن مرحلة متنمرة ومتزايدة من “الأرابوفوبيا” (معاداة العرب)، وقد كانت الأصابع الفرنسية وراء كل ذلك.
من جهته، فسر الكاتب بشير فريك موقف الجزائر الرسمي من التنظيم الفرنكوفوني بالاعتبارات التاريخية والحضارية والسياسية والفكرية، حيث إن “الشعب الجزائري عانى من النظام الاستعماري الاستيطاني، إذ سعت فرنسا إلى منع اللغة العربية منذ العقود الأولى للغزو”.
وأكد فريك في حديث للجزيرة نت أن الخيال الجزائري والرأي العام للأغلبية الوطنية “يستحضران على الدوام وديانا من دماء الشهداء بين بلادهم وفرنسا وثقافتها، كما يدرك السياسيون ذلك، إما قناعة أو خضوعا للموروث التاريخي”.
تناقض الخطاب الرسمي مع الواقع
بالمقابل، يعتقد فريك أن “الواقع الجزائري يؤكد بما لا يدع مجالا للشك هيمنة فرنكوفونية على الواقع الإداري الرسمي في الجزائر رغم جهود ومحاولات التعريب منذ عهد المرحوم هواري بومدين”.
وفي قراءته لحالة التناقض بين الخطاب الرسمي والواقع الحقيقي، يقول مؤلف كتاب “الهيمنة الفرنكوفونية على الإدارة الجزائرية” إن فرنسا الاستعمارية وأمام إصرار الثورة التحريرية على انتزاع الاستقلال تفطنت إلى أهمية الإبقاء على لغتها في مختلف المؤسسات من خلال غرس أعوانها في الإدارات.
وأوضح أن فرنسا استغلت ظروف البلاد التي وجدت نفسها مضطرة لتوظيف الموارد البشرية المفرنسة لمواصلة أداء الخدمات العمومية، وقد جسدت ذلك عبر اتفاقيات إيفيان (18 مارس/آذار 1962) التي فرضت تعليم الفرنسية بقوة، مما “جعل المدرسة الجزائرية تقدم خدمة جليلة للمنظومة الفرنكوفونية، ربما أكثر مما كان عليه الحال أيام الاستدمار”.
وأشار فريك -وهو محافظ سابق في عدة مدن كبرى- إلى دور المدارس المتخصصة، مثل المدرسة الوطنية للإدارة التي زودت كل الإدارات العمومية المركزية والمحلية والقضاء والدبلوماسية بإطارات مفرنسة لغة وفكرا في كثير من الأحيان.
ثم تأتي بعدها المدارس الأخرى للزراعة والسياحة والهندسة والأشغال العمومية والري والبريد والمواصلات والمالية والضرائب والبنوك وغيرها، وكلها تدرس بالفرنسية مع حصص متواضعة بالعربية، وهو ما أنتج إدارة فرنكوفونية لغة، وأحيانا فكرا وأيديولوجية، بحسب كلام المحافظ السابق.
شراكات إستراتيجية جديدة
وعن آفاق العلاقة بين الجزائر و”المنظمة الدولية” في ظل ما بات يعرف بالمفهوم الجديد للفرنكوفونية بصفتها عاملا للتقارب والتنمية المشتركة عوضا عن علاقة الهيمنة والخضوع، يؤكد فيصل إزدارن المتخصص في علم الاجتماع السياسي من باريس أن عزوف الجزائر عنها يشكل قرارا سياسيا وأيديولوجيا.
ويبين أن السبب هو عدم اقتناع الجزائر بجدوى العضوية من الناحية العملية والخوف من تعرض صورتها لنوع من التشويش بحكم أن “الانضمام قد يُفهم على أنه تبعية ثقافية وإذعان للمستعمر القديم رغم استفادتها من برامج في الميدان الثقافي والتعليمي”.
واعتبر إزدارن في حديثه للجزيرة نت أن انعقاد قمة الفرنكوفونية في هذه المرحلة المفصلية من العلاقات الدولية بعد تأجيل لمرتين يشير إلى حجم الصراع الذي تدور رحاه في القارة الأفريقية بين مختلف القوى العظمى “ولا سيما بين روسيا وامتدادها في منطقة الساحل وفرنسا التي بدأ نفوذها بالتقلص وانهيار شعبيتها لدى الأجيال الأفريقية الشابة”.
وبالنسبة للجزائر -يقول المتحدث- فإن المؤكد على المستويين الشعبي والنخبوي هو التحول نحو اعتماد لغات أجنبية أخرى -وعلى رأسها الإنجليزية- رغم وجود غموض كبير في سياسات تعليم هذه اللغات.
كما يعتقد إزدارن أن لدى النظام السياسي الحالي في الجزائر أولويات أخرى، أهمها إعادة النظر في منظومة الشراكات التي نسجتها على مدى أعوام، لافتا إلى “بروز جنوح نحو شراكات إستراتيجية جديدة قد تخرج فرنسا من دائرة الاهتمام الجزائري على المديين المتوسط والبعيد”.