إنذارات خمسة مقلقة فهل نصحو؟
الشيخ رائد صلاح
حدَّثني رئيس لجنة إفشاء السلام المحلية في البلدة (س) أنه جاءه شاب من شباب بلدته في مقتبل العمر وقال له وهو يتجرع الحسرة خلال كل كلمة كان يتلفظ بها: أريد أن أبوح لك بسر ثقيل جدا يقرر مصير بلدتنا بعد بضع سنوات، وأريد أن أريح ضميري فما عدت أتحمل إخفاء هذا السر الثقيل في صدري، ولتعلم أنني بعد أن أنهي كلامي، أكون بذلك قد نقلت أمانة هذا السر الثقيل مني إليك، ووضعته في عنقك، فاسمعني جيدا … هناك فئة من بلدتنا غرقوا في مستنقع العنف بكل أدواته، وباتوا يملكون الأموال الطائلة والسيارات الفارهة والقصور الشامخة، وباتوا يتصيدون شباب بلدتنا كي يكونوا مجندين لهم، ويطيعوهم طاعة عمياء، وينفذوا أوامرهم كل أوامرهم حتى لو أمروهم بقتل فلان.
وكي يتحكموا بهؤلاء الشباب كأن هؤلاء الشباب عبيدا لهم، بدأوا يأخذون كل شاب منهم إلى مطاعم فاخرة، ويقدمون له أفخر الطعام، ثم بدأوا يأخذون كل شاب منهم إلى النوادي الليلية حيث الفجور والخمور وسائر الموبقات، ثمَّ بدأوا يمنحون كل شاب من هؤلاء الشباب مسدسا وسيارة تخطف الأبصار وراتبا شهريا، ثم بدأوا ينفذون كل أصناف جرائمهم بواسطة هؤلاء الشباب، فتارة يقولون للواحد من هؤلاء الشباب أحرق سيارة فلان!! وتارة يقولون له أطلق الرصاص على بيت فلان!! وتارة يقولون له أطلق الرصاص على قدمي فلان… وهكذا!!
وقبل أن يختم هذا الشاب الكشف عن هذا السر الثقيل لرئيس لجنة إفشاء السلام المحلية في بلدته (س) قال له بحسرة وألم: اعلم أنَّ حال بلدتنا إذا ظل على ما هو عليه دون تصدي لتفشي ظاهرة تصيد الشباب ثمَّ استعبادهم وتحويلهم إلى أُجراء رخاص لتنفيذ أوامر مشغليهم المتنفذين في مستنقع السوق السوداء والربا الأسود والخاوة وفوضى السلاح وترويج الممنوعات المدمرة، فبعد مرور سنتين لن يبقى في بلدتنا شباب أحرار حتى تخاطبهم!! ولذلك إعلم أنه انتهى وقت النوم والغفلة واللامبالاة قبل أن يتسع الرقع على الخارق، وقبل أن نبكي على خراب البصرة، وقبل أن نعض على أصابعنا ندما في وقت لا ينفع فيه ندم، ولا تلاوم، لا عتاب، ولا ذرف دموع التماسيح!!
ثمَّ إلى جانب هذا الإنذار الصارخ المدوّي الأول الذي أوردته أعلاه، فقد حدثتني إحدى العاملات في لجنة إفشاء السلام النسائية في البلدة (ص) أنها دخلت إلى صف في مدرسة ثانوية لتلقي عليهم محاضرة حول رسالة إفشاء السلام ونبذ العنف، واختارت أن تبدأ محاضرتها بطرح هذا السؤال على طلاب ذاك الصف: ماذا ترغب أن تكون بعد المرحلة الثانوية؟! فقال أحدهم: أريد أن أكون مهندسا، وقال آخر: أريد أن أكون طبيبا، وقال ثالث: أريد أن أكون محاميا …، وفجأة وخلال استماعها إلى أجوبة أولئك الطلاب وإذ بأحدهم يقاطع الجميع ويقول لهم بنبرة سخرية: كلكم أغبياء! أمَّا أنا فيكفي أن أقتل واحدا وآخذ مقابل ذلك مليون شيكل مرة واحدة، وهكذا سأبني مستقبلي ولن أحتاج إلى البقاء على مقاعد الدراسة في الجامعة لبضع سنوات أخرى بعد المرحلة الثانوية!! فقاطعه طالب من الصف وقال له ساخرًا: أنت أغبى منهم! هل تريد أن تقتل حتى تعيش! هذه جريمة يجب ألا ترضى بها!! أمَّا أنا فسأمتهن حرفة توزيع القروض الربوية، وسيتضخم رأس مالي يوما بعد يوم حتى أصبح أغنى إنسان في بلدي!! ثم انتهت إجابات أولئك الطلاب، وواصلت تلك الأخت إلقاء محاضرتها وهي مذهولة مصدومة لا تدري ماذا تقول!! وبدأت تخرج الكلمات من فمها بصعوبة بعد هول الصدمة!! ثمَّ إلى جانب هذا الإنذار الصارخ الثاني الذي تتصدع له الجبال، حدَّثني أستاذ كريم من البلدة (ع) أنه دخل إلى صفه كالعادة ليلقي عليهم الدرس، وفجأة وبعد انتهاء الدرس وإذ بأحد طلاب ذاك الصف يستوقفه بعد خروجه من الصف وقال له: يا أستاذ ما حكم تناول (الحشيش)؟! فقال له ذاك الأستاذ: طبعا هو حرام كحرمة الخمر والأفيون وسائر الممنوعات، فقا له ذاك الطالب: ألا يمكن أن نعتبره مباحا، ومن الجائز تناوله؟! فقال له ذاك الأستاذ مذهولا مصدوما: أعوذ بالله تعالى، هو حرام، ولا يوجد أي عالم ثقة أجازه، فقال له ذاك الطالب: إنما أسألك يا أستاذ هذا السؤال لأنني- بصراحة- أتناول الحشيش وهناك 70% من زملائي الذين أعرفهم يتناولون الحشيش كذلك!! فبهت ذاك الأستاذ وسرى الحزن فيه من رأسه حتى أخمص قدميه أسفا على هذا الطالب وعلى زملائه!! وابتعد عن الطالب وهو مهموم يضرب أخماسا بأسداس ولسان حاله يقول: اصحوا يا أهل بلدتنا يا نيام!! لا زال هناك فرصة ثمينة بين أيدينا حتى نمنع وقوع الكارثة على كل طلابنا وشبابنا. ثمَّ إلى جانب هذا الإنذار الثالث المرعب المقلق الذي يجب أن يحرك كل ضمير ساكت فينا، حدَّثتني إحدى الأخوات العاملات في لجنة إفشاء السلام النسائية في البلدة (ع) أنَّها دخلت إلى صف تاسع في إحدى مدارس بلدتها لإلقاء محاضرة عليهم حول رسالة إفشاء السلام ومناهضة العنف ورفضه ونبذه، وعندما بدأت تتحدث عن أهمية إفشاء التراحم والتغافر والتسامح بيننا، وإذ بأحد الطلاب يقاطعها ويقول لها: أنت مخطئة!! الحل الوحيد هو الانتقام!! وقبل أن تتجرع مرارة الصدمة وإذ بطالب آخر يتكلم ويقول: صدق زميلي!! أنت مخطئة!! الحل الوحيد هو الانتقام!!
فزادت غصة تلك الأخت ومع ذلك واصلت إلقاء محاضرتها بثقة وتفاؤل موقنة بمبدأ الحديث النبوي القائل: (تداووا عباد الله فإن لكل داء دواء). ثمَّ إلى جانب هذا الإنذار الرابع الفاجع المؤرق حدثني أحد العاملين في سلك مكافحة العنف في بلدته (ش) عن نتائج استطلاع أجرته سلطتهم المحلية، وعن النسب المئوية المخيفة التي ظهرت في هذا الاستطلاع حول ظاهرة امتداد العنف في بلدتهم، وهو استطلاع يحتاج إلى سلسلة مقالات، ولكنني لا أستطيع أن أبوح به، حتى يأذن لي القائمون على هذا الاستطلاع، وما يمكن أن أقول إنَّ هذا الاستطلاع يجعل الولدان شيبا!!
ثمًّ ماذا!! مع هول كل هذه الإنذارات الخمسة إلا أننا لسنا في طريق مسدود، ولسنا في حالة ميؤوس منها، ولسنا نعاني من قلة الحيلة وانسداد الأفق!! بل المطلوب أن نتحرر من موقف المتفرج على مجتمعه وهو يحترق، وأن نواصل جادين صادقين بذل كل جهد لإفشاء رسالة إفشاء السلام وفق منهجية عمل لجان إفشاء السلام المنبثقة عن لجنة المتابعة.