الصناعة الدوائية بالمغرب.. تجربة ممتدة مكنت البلاد من تحقيق استقلالية وريادة أفريقية
استطاعت المملكة المغربية تلبية احتياجاتها من الأدوية بفضل صناعة وطنية واعدة، إذ تصنع البلاد نحو 70% من حاجات السوق الوطنية من الأدوية، في حين تستورد النسبة المتبقية من الخارج، حسب ما أعلن وزير الصحة المغربي خالد آيت الطالب، خلال تقديم مشروع موازنة وزارته لسنة 2023 بالبرلمان، وأضاف الوزير أن بلاده تشجع التصنيع المحلي لأدوية الأمراض المزمنة والمكلفة.
وتشكل الصناعة الدوائية ثاني نشاط كيميائي بالمغرب بعد الفوسفات، حيث يحتل المرتبة الثانية على مستوى القارة الأفريقية، كما أن لهذه الصناعة إمكانات نمو هائلة بفضل مكتسبات عديدة وتجربة تمتد لعقود.
تجربة صناعية ممتدة
أُحدثت أولى الوحدات الصناعية المتخصصة في الأدوية بالمغرب في خمسينيات القرن الماضي، وكان عددها في تلك الفترة لا يتجاوز 5 وحدات، لينتقل العدد إلى 18 في فترة الثمانينيات، ثم 27 في التسعينيات، ليصل عددها حاليا إلى 53 وحدة صناعية.
وتسهر 3 جمعيات مهنية على تنظيم النسيج الصناعي الدوائي الوطني بالمغرب وهي:
- الجمعية المغربية للصناعات الصيدلية: أُسست سنة 1985 وتضم 26 مؤسسة صناعية.
- جمعية مقاولات الأدوية بالمغرب: أُسست سنة 2005 وتتكون من شركات تابعة لمجموعات صيدلية دولية وتشمل 19 مؤسسة صناعية.
- الجمعية المغربية للدواء المكافئ: أُسست سنة 2010 وتهدف إلى النهوض بصناعة الدواء المكافئ بالمغرب.
وإلى جانب شركات وطنية، مثل “لابروفان” (Laprophan) و”كوبر سوثيما” (cooper sothema)، يوجد ممثلون عن شركات متعددة الجنسية تتخذ من المغرب مقرا لها.
وأكد مجلس المنافسة -في تقريره العام الماضي عن قطاع الأدوية- أن أهمية هذا القطاع لا تنحصر في حجم المعاملات التي يحققها أو في مناصب الشغل التي يخلقها، وإنما في دوره الإستراتيجي في الحفاظ على صحة المواطنين وتحقيق الحاجات المحلية من الأدوية.
من جهته، يقول الدكتور سعيد عفيف إن جائحة كوفيد-19 التي شهدها العالم أظهرت دور هذا القطاع في إمداد السوق الوطنية بالحاجات الأساسية، إذ لم تشهد البلاد أي خصاص (احتياج) في المضادات الحيوية والباراسيتامول على سبيل المثال، مما يؤكد -حسب المتحدث- أهمية الصناعة الدوائية الوطنية في تحقيق الاستقلالية الدوائية.
نظرة على الصناعة الدوائية
يعد المغرب أحد رواد الصناعة الدوائية في أفريقيا والعالم العربي، وأكد رئيس الفدرالية المغربية لصناعة الأدوية والابتكار الصيدلي، محمد البوحمادي، أن هذه الصناعة المستمرة منذ عقود تتوفر على أعلى معايير الجودة الأوروبية، وأسهمت في القضاء على العديد من الأوبئة.
وأوضح، أن المملكة تضم 53 شركة دوائية تتوفر 47 منها على مصنع للإنتاج، مضيفا أن هذه الصناعة تسهم في توفير 55 ألف فرصة عمل، منها 13 ألف فرصة عمل مباشرة، كما أن 99% من الأطر في هذه الشركات مغاربة.
وتسهم الصناعة الدوائية بنسبة 1.5% في الناتج المحلي الإجمالي، و5.2% في الناتج الداخلي الخام الصناعي.
ويعمل القطاع على سد الحاجة على الصعيد الوطني من خلال تصنيع الأدوية محليا بنسـبة تبلـغ 70% من حيـث الحجم و54% من حيث القيمة.
وحسب تقرير مجلس المنافسة، فإن المغرب يستورد النسبة المتبقية من فرنسا تليها ألمانيا وسويسرا ثم إسبانيا وإيطاليا.
ويظل الاتحاد الأوروبي أول مصدر للأدوية نحو المغرب بنسـبة تتعدى 60% من الواردات المغربية، في المقابل تتميز الصين والهند بحصصهما السوقية التي شهدت نموا خلال السنوات الأخيرة، وهما أساسا المواد الخام والأدوية الجنيسة.
ويبلغ حجم إسهام الصناعة الدوائية في الصادرات حوالي 1.3 مليار درهم (أي 122 مليون دولار)، وحسب البوحمادي فإن 90% من الصادرات توجه إلى أفريقيا، بينما يصدر الباقي نحو بلدان الشرق الأوسط وحصة ضعيفة نحو أوروبا.
ويبلغ حجم الاستثمار السنوي 800 مليون درهم (75 مليون دولار)، تذهب في الأدوات الصناعية والابتكار التكنولوجي والجودة والتدريب.
وحسب نتائج الحسابات القومية للمندوبية السامية للتخطيط لسنة 2022، فإن القيمة المضافة لقطاع الصناعة الصيدلية بلغت حوالي 6.6 مليارات درهم سنة 2021 (حوالي 618 مليون دولار).
قطب أفريقي
وقع وزيرا الصناعة والصحة ومهنيي قطاع الدواء سبتمبر/أيلول الماضي عقد برنامج للفترة (2022-2027) خاص بقطاع صناعة الأدوية.
ويستهدف هذا العقد تحفيز التصنيع المحلي وإحداث نحو 16 ألف منصب شغل صناعي، كما يستهدف زيادة رقم المعاملات المباشرة بنحو 15 مليار درهم ( 1.4 مليار دولار) وإحداث قيمة مضافة مباشرة إضافية تقدر بنحو 6 مليارات درهم (560 مليون دولار) وتحسين الميزان التجاري بنحو 10 مليارات درهم أي حوالي 900 مليون دولار.
والعام الجاري، أطلقت المملكة المغربية أشغال إنجاز مصنع لتصنيع وتعبئة اللقاح (المضاد لكوفيد-19 ولقاحات أخرى).
ويستهدف هذا المشروع -على المدى المتوسط- نقل التعبئة المعقمة وتصنيع المواد النشطة لأكثر من 20 لقاحا ومنتوجا للعلاجات الحيوية، في أقل من 3 سنوات بالمغرب، لتغطية أكثر من 70% من احتياجات المملكة وأكثر من 60% من احتياجات القارة الأفريقية.
ويقول عفيف إن هذا المصنع الذي يتوقع أن يبدأ فيه الإنتاج بداية العام المقبل، سيجعل المملكة قطبا أفريقيا معترفا به عالميا في الابتكار البيوصيدلاني واللقاحي.
طموحات وتحديات
يطمح المستثمرون في الصناعة الدوائية إلى تحقيق عدد من النتائج في المستقبل القريب.
وحسب البوحمادي، فإن الفدرالية المغربية لصناعة الأدوية والابتكار الصيدلي تطمح إلى تعزيز السيادة الصحية للمملكة، من أجل ضمان استمرار توفير الأدوية والمنتجات الطبية الأساسية.
كما تطمح إلى الإسهام في إنجاح ورش تعميم التغطية الصحية الشاملة عن طريق توفير الأدوية الجنيسة وتحسين الوصول إليها وتشجيع التصنيع المحلي للأدوية.
هذا إضافة إلى جعل “صنع في المغرب” علامة الجودة والقدرة التنافسية والاستدامة، وبرأي البوحمادي فإن هذه العلامة تعد رافعة لتعميق الشراكة الدولية والموقع الإستراتيجي للمغرب على المستوى الإقليمي والجهوي والدولي.
غير أن هذه الصناعة تواجه جملة من التحديات، من بينها بطء الإجراءات الإدارية، وعدم وجود نصوص لتطبيق القوانين والأنظمة المعمول بها، مما يؤثر على مستوى تنافسية الصناعيين على السوق المحلي وسوق التصدير، حسب ما قال رئيس الفدرالية.
هذا إلى جانب ضعف متوسط القدرة الشرائية للمواطنين، وهو ما يمكن استدراكه حسب البوحمادي بتعميم التغطية الصحية الشاملة.
من جهته، يؤكد عفيف أهمية مشروع القانون 06-22 الذي يسمح بإحداث وكالة وطنية للأدوية، مشيرا إلى أن إنشاء هذه الوكالة من شأنه تسريع إصدار الرخص وتعزيز الاستثمار في القطاع الدوائي والصيدلي.
وكان وزير الصحة قد أعلن في لجنة القطاعات الاجتماعية بمجلس النواب، خلال تقديمه مشروع موازنة وزارته هذا الشهر، أن القانون المنظم لهذه الوكالة قد تمت صياغته بطريقة تشاركية، وهو حاليا في مراحل متقدمة.
ويعول الفاعلون في المجال الصحي على هذه المؤسسة من أجل تطوير السياسة الدوائية الوطنية ومواكبة التحولات والتحديات وضمان الاستقلال والسيادة الدوائية للبلاد عن طريق دعم الإنتاج الوطني من الأدوية ودعم تصنيع الأدوية الجنيسة.
ولفت عفيف إلى أهمية الموارد البشرية في هذه الصناعة وفي تنمية البحث الدوائي والصيدلي، مشددا على أنه آن الأوان للاهتمام بالبحث العلمي وتحفيز الباحثين لثنيهم عن الهجرة إلى الخارج.