منارات في الفكر الإسلامي (1)
د. محمود مصالحة
الفكر هو عملية عقلانية يديرها العقل البشري، للوصول إلى قرارات ومضامين منطقية، يبدع فيها من امتلك علمًا وافرًا في طرق التفكير، وباعًا في المعارف الثقافية، ولكل فكرٍ مبادئه أو عقيدته وقواعده التي ينطلق منها، باعتبارها ثقافة الشعب والأمة وتاريخها الحضاري، والبيئة التي يخدمها.
ولقد خاطب القرآن الكريم العقل الإنساني بأساليبه البلاغية البديعة الأكثر تميزاً، بها يستحثه للتفاعل العقلاني بالتفكر والنظر والبحث في القضايا الكونية الكبرى وعلاقتها بالإنسان والحياة، ولم يستثني الخطاب القرآني أحدًا من تلك المجتمعات البشرية على مر العصور، من الكافرين والملاحدة، والمشركين، والمنافقين، وأهل الكتاب، والمؤمنين، والأنبياء والمرسلين.
وخاطب القرآن الكريم العقل في أكثر من ثلاثمئة آية، حثَّ فيها العقل على النظر والتفكر والتدبر، وقد وجاءت مشتقات العقل في تسع وأربعين آية بصيَغٍ فعلية، مثل تعقلون، ويعقلون، وعقلوه، ويعقلها، ووردت مرادفاتها بمعنى العقل، مثل: الألباب واللب، والحِلْم، والحليم والحِجْر، وأولي النهى، والقلب والقلوب، والفؤاد والأفئدة.
وينطلق الفكر الإسلامي من منطلقات إسلامية وفق المنهج الإسلامي العقدي والتشريعي والفقهي والتربوي والعلمي، ولقد تجلى الفكـر الإسـلامي بالمهج الشمولي المنفتـح على الإنسانية مستعليًا على محدودية التفكير الانغلاقي في الفكر العلماني بمشاربه الإلحادية المختلفة، رافضًا التوقف عند العالم المشهود، بل تعدَّاه إلى عالم الغيب ما بعد الموت، وهو عالم الآخرة، والإيمان به نابع عن القناعة الفكرية الإيمانية اليقينية بوقوعه للمثول في محكمة العدل الإلهية، وهي من القضايا الكبرى التي وقف عليها الفكر الإسلامي بكل تفصيلاتها، مبينًا حقيقة علاقة الإنسان بالخالق عز وجل، وعلاقة الإنسان بالإنسان، وبالكون وبسائر المخلوقات، وحقيقة مصيره بعد الموت، كما خاطب القرآن الكريم الإنسان بمختلف توجهاته العقدية والفكرية، بما يتسـع لكل المذاهب والعلـوم النافعة، موجهًا العقل إلى النظـر والتفكـر والرصد والبحث والاسـتنتاج في القضايا والمضامين التي تم كشفها في مختلف العلوم الدنيوية المادية، وإن تاريخ الحضارة الإسلامية بتظافر العلوم الإسلامية مع العلوم المادية البحتة، لأكبر شاهد مادي على الآفاق اليقينية الممتـدة عبر عـالم الشهادة المحدود المدرك بالعقلنة، إلى عالم الغيب الذي لا تدركه محدودية الحـواس البشرية، في حين قدَّم فلاسفة الإسلام منهم الكندي والفارابي وابن سينا وغيرهم البراهين العقلية على والوحي والنبوة، وقاموا بالتوفيق بين العقل والنقل، وكذلك ابن خلدون قدَّم البراهين العقلية على توحيد وتنزيه الربوبية، وقدم أبو الحسن الأشعري الأدلة العقلية على العقائد الإسلامية، ردًا على الفِرَق المنحرفة كالمعتزلة (مقدمة ابن خلدون، المكتبة المصرية، ص435).
وكُثْرٌ هم الباحثون من القوميين المغرضين ممن وقعوا بنزعتهم القومية الإلحادية التي أخرجتهم من أمانتهم العلمية فحادوا عن الموضوعية، وسقطوا في منزلق التجني الباطل على الإسلام والفكر الإسلامي والمفكرين الإسلاميين، فحذوا حذو أساتذتهم من المستشرقين شبرًا بشبر وذراعًا بذراع بقولهم بمحدودية الفكر الإسلامي، وهذا باطل ومحض افتراء، بغرض أن ينفض الناس عن الإسلام والهوية الإسلامية إلى الهوية القومية العلمانية الملحدة، ولكن الفكر الإسلامي المنفتح بات مستعليًا بخصائصه الربانية على الأيديولوجيات الفكرية المادية ذات الطابع الدنيوي المحدود، تلك هي الحقيقة التي لا مراء فيها، لكون الفكر الإسلامي بهيمنته على غيره يرتكز على الوحي السماوي الفوقي بخصائصه المتميزة كخصيصة الشمولية، لقوله تعالى: “إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ” الإسراء:9، فالآية الكريمة تدعو للاسترشاد بالقرآن الكريم في قضايا الجوانب الحياتية الإيمانية والتشريعية والتربوية، وفي الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية، لذلك فإنه الفكر الإسلامي هو الأقوم والأعدل والأشمل، ومن خصائصه أنه يتناسب مع الفطرة الإنسانية، لقوله تعالى: “فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ”. الروم:30. ويتميَّز أيضا بخصيصة الثبات في المسائل الأصولية، لقوله تعالى: “مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ” آل عمران:7. والمرونة في المسائل الفرعية الخلافية لقوله تعالى: “وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ” آل عمران:7، فالآية الكريمة فيها من السعة ما فيها، فهي تحتمل أكثر من تفسير، وكذلك عالمية الفكر الإسلامي هي من خصائصه المتميزة، لقوله تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” سبأ: 28، فهو موجه للناس كافة. ومن منطلقات الفكر الإسلامي منظومة القيم الإسلامية، منها العبودية والإيمان والأمانة والأمن والعدالة والصدق والأخوة والتكافل والوحدة … التي تكاد تكون مفقودة في العالم المعاصر تحت ظل ما يسمى: (بهيئة الأمم المتحدة)، إذن إنه الفكر الإسلامي الإنساني المنفتح على مصراعيه، فقد عالج كبرى القضايا الكونية والخلقية والمصيرية، بارتكازه على تلك الخصائص ومنظومة القيم الإسلامية التي ذكرها الباحث آنفا.
أما عالم الفكر المادي البَشَري المعاصر وما يحمل من صراعات أيديولوجيات فكرية متناقضة أدَّت إلى توترات وصدام عسكري عالمي بين دول تلك الأيديولوجيات، بل إلى حروب طاحنة سابقة ولاحقة أزهقت أرواح عشرات الملايين من البشر، فلا سبب لها إلا تلك النزعات الدامية التي تبنتها التيارات الفكرية الوضعية الإلحادية المتمثلة بالأحزاب الحاكمة من الليبرالية الرأسمالية والشيوعية والنازية والفاشية والقومية المتصارعة على مصالح الأيديولوجيات الضيقة، وعلى النفوذ والسيطرة والسيادة العالمية المادية نهبًا لثروات الشعوب المستضعفة، وعن ذلك اسألوا التاريخ.
خلاصة القول: لقد أخفقت تلك التيارات الفكرية الوضعية إخفاقًا بليغًا في افشاء السلم العالمي في جوانبه الاجتماعية والتربوية والاقتصادية والسياسية، وفشلت فشلا ذريعا في إرساء العدالة الإنسانية، بل تعمدت السياسة الأمريكية نشر الفوضة الخلّاقة في الدول العربية والإسلامية، الفوضى الخلّاقة أعلن عنها رئيس الولايات المتحدة السابق جورج بوش الابن، وهي افتعال حروب داخلية أهلية تدار بأياد خارجية كالحرب الأهلية في اليمن والسودان وليبيا وتشاد وسوريا… هكذا هي حقيقة الفكر الرأسمالي الليبرالي الغربي القومي الأمريكي البريطاني الفرنسي الروسي لا يعرف للإنسانية سبيل إلا شعارات كاذبة، لذلك باتت البشرية أحوج ما يكون إلى البديل، والآن تنشد الإسلام وأنموذج الفكر الإسلامي، تلك المنارة المشرقة بتجلياتها المذكورة.