معركة الوعي (136) إياك أن يخدعك هؤلاء!
حامد اغبارية
تغيير الواقع لا يكون بالرضوخ للواقع
يستطيع كل حزب أو رئيس حزب أو سياسي أو من يعتبر نفسه قياديا أو مواطن عادي أن يحدثك عن الوطن والوطنية من شروق الشمس إلى غروبها، ليثبت لك أنه وطنيٌّ يسعى إلى مصلحة مجتمعه وخدمة أهله. وسيجد أمثال هؤلاء من يصدقهم ويصفّق لهم دون تفكير. غير أن الكلام يبقى كلاما والشعار يبقى شعارا حتى تراه على أرض الواقع ويخضع للاختبار. وهنا سرعان ما تكتشف أن الكلام والشعار لا علاقة لهما بواقع الحال. إذ أن “نبشة” صغيرة في التاريخ القريب أو البعيد ستقدم لك صورة مختلفة تماما عمَّا تسمعه من أفواه هؤلاء، أو تقرأه في إعلامهم أو مؤلفاتهم.
وإن الواجب الأخلاقي يفرض عليك أن تقول ما تعتقد أنه الحق وأن تكشف الحقيقة للناس، حتى يعرفوا إلى أين هم ذاهبون ومع من يتعاملون، أو بالأحرى من الذي يتعامل معهم، وحتى يدققوا في اختيار موطئ أقدامهم. فالكلام كثير والكذب كثير والخداع كثير وتزوير الحقائق كثير وتزيين القبيح كثير، خاصة في فترة الانتخابات التي يستيقظ فيها النائمون من سباتهم الطويل، لأن هؤلاء يعتمدون على ذاكرة الناس القصيرة أو على تجييش العواطف التي تستطيع أن تُنسي البسطاء- ولو مؤقتا- حقيقة الحال وعمق الكارثة وحجم المصيبة.
إننا اليوم نقف أمام أحزاب تقدم نفسها للجمهور على أنها تمثله، وتريد منه أن يمنحها صوته كي تصل إلى الكنيست، وهناك ستحقق ما لم يتحقق قبل ذلك، وما لا يمكن تحقيقه أصلا.
كنت قد ناقشت، في مقالات سابقة، غالبية ما تمارسه هذه الأحزاب من لعب على عواطف الناس وتصوير الأمور على غير حقيقتها، من خلال ماكنة إعلامية ضخمة تموّلها جهات هي أبعد ما تكون عن مصلحة مجتمعنا وشعبنا الفلسطيني، بل هي تعمل من أجل خدمة ما يضرّ بهذه المصلحة. بل إن هؤلاء جميعا يحصرون المصلحة في المواطنة الإسرائيلية وما يجب أن يترتب عليها من حقوق وخدمات ومساواة وما شابه ذلك، بينما المصلحة في حقيقتها هي أكبر من ذلك بكثير. إنها أكبر من أن يستوعبها هؤلاء، بل هي أكبر من هؤلاء.
إن الذي يريد أن يمثل الناس أو يتصدى لخدمة مصلحتهم عليه أن يسألهم أو يستفتيهم سؤالين اثنين: هل توافقون أن أمثلكم؟ وما هي المصلحة التي تريدون مني أن أحققها لكم كممثل لكم؟ أما أن يزعم أنه يمثلهم ويقرر بنفسه- دون الرجوع إليهم- ما هي مصلحتهم، حتى لو حصرها في المأكل والمشرب والرفاهية الكذابة، فهذه خطيئة تستحق العقاب. وفي التالي فإن أحزاب الكنيست العربية لا تمثل جمهور الداخل الفلسطيني على الحقيقة، وإنما تستغل هذا الجمهور خدمة لأجنداتها. وهذه الأجندات تتجاوز بكثير مسألة الحفاظ على وجودها. إنها أجندات أقل ما يقال فيها إنها- في المحصلة النهائية- تسعى إلى دفع الناس للقبول بالواقع، بدلا من السعي إلى تغييره، مع لفت الانتباه إلى أن تغيير الواقع ليس معناه تحسين ظروف الناس المعيشية أو تحقيق ميزانيات لم يكن مجتمع الداخل يحصل عليها، أو الاعتراف بقرية غير معترف بها، أو وضع خطط خمسية أو عشرية، أو خطط لمكافحة الجريمة، أو توسيع مناطق النفوذ، أو توفير المسكن ووقف هدم البيوت، أو رفع مستوى جهاز التعليم، أو توفير فرص العمل وخفض نسبة البطالة، أو تحقيق العدالة أمام الجهاز القضائي، أو اجتثاث العنصرية… الخ. فهذه الأمور من أوجب واجبات الدولة التي تحترم نفسها، ولا تحتاج إلى أكثر من قرار. هي لا تحتاج أعضاء كنيست كي يملأوا الدنيا ضجيجا وزعيقا دون طائل. ولمّا أن القرار هو عدم اتخاذ قرار لتحقيق هذه الأمور التي هي أصلا من الأساسيات التي لا تحتاج جهدا ولا ضجيجا، فإن عشرين أو ثلاثين أو أربعين عضو كنيست عربي لن يغيروا من الأمر شيئا.
إن تغيير الواقع الذي نتحدث عنه هو تغيير الواقع الذي جعلنا نكتفي بالفتات، معتقدين أن هذا هو غاية المُنى، وأنه ليس بالإمكان أفضل مما كان. ولم يسجّل التاريخ أن شعبا غيَّر واقعَه وحقق حريّته وطموحاته بالرضوخ للواقع الذي فرضته عليه أحداث تاريخية…..
“نبشة” صغيرة- جزء من الحقيقة:
“إذا أمطرت في موسكو فُتحت المظلات في الناصرة وحيفا”، لم تكن مجرد جملة عابرة تقال على سبيل التندُّر، بل هي تعبير عن واقع الحال. فقد كانت سياسة الحزب الشيوعي انعكاسا لما تقرره القيادة المركزية في موسكو. وهذه حقيقة لا يمكن للحزب إنكارها. ويتضح من سياسة الحزب أن الاتحاد السوفييتي كان أكثر دولة دعمت المشروع الصهيوني وبذلت كل وسيلة لقيامه، ولإفشال كل محاولة لإنقاذ فلسطين من مخالب المشروع الصهيوني (الذي دعمته أيضا الإمبريالية الغربية).
– بعد عام النكبة وقيام الكيان الجديد على أنقاض الشعب الفلسطيني كانت صحيفة “الاتحاد” تنشر أخبارا وتقارير يمكن تلخيصها بجملة واحدة: نفي الطابع الاستعماري عن المشروع الصهيوني، واعتباره مشروعا تحرريا. وفي نفس الوقت بدأت الصحيفة تنشر تقارير تتحدث عن معاناة “اللاجئين في مخيمات اللجوء وضنك العيش الذي يلاقونه”.
– لا تستعجل في الحكم. فهي لا تقصد اللاجئين الفلسطينيين، بل القادمين اليهود الذين وُضعوا في مراكز التجميع المعروفة باسم “المعبروت”، والذين حصل قسم كبير منهم، بعد ذلك، على مساكن خاصة بهم. وكانت هذه المساكن هي بيوت الفلسطينيين الذي هجر أصحابها منها.
– ولماذا لم تتطرق الصحيفة إلى معاناة اللاجئين الفلسطينيين؟ لأن الحزب اعتبر أن ما حدث للفلسطينيين ليس بسبب المشروع الصهيوني، وإنما بسبب المؤامرة الإمبريالية التي شاركت فيها الأنظمة العربية الرجعية!
يعني بستاهلو اللي صار فيهم..! وخلي الرجعية والإمبريالية تنفعهم..
– غيّر الحزب خطاب الحديث عن “الوطن” إلى الحديث عن “المواطنة (الإسرائيلية)، واتخذ قضية “المساواة شعاره النضالي الذي ما يزال يرفعه إلى اليوم…! وقد تميز سلوك الحزب بتماثل كامل مع الدولة الإسرائيلية ومؤسساتها الرسمية والنقابية. وطبعا حديثه السابق عن الوطن لم يكن – لا سمح الله- عن الوطن الفلسطيني، بل عن الوطن الإسرائيلي في أرض إسرائيل! ولما قام الوطن واستقر الأمر انتقل للحديث عن المواطنة.
– رغم أن الحزب تبنى مشروع التقسيم من عام 1947 (وهي خدعة كبيرة مارسها الحزب لتمرير سياسته)، إلا أنه صمت تماما عن ضم مناطق من القسم العربي (حسب قرار التقسيم) إلى الدولة الإسرائيلية (الناصرة ومنطقة الجليل كمثال). ولم يكن هذا الصمت – حسب فهمي – صمتَ عاجز بل صمتَ متواطئ..
– في 1948 ذكر وزير ما يسمى بالأقليات (بين 1948-1949) بيخور شطريت – وهو بالمناسبة
أول وزير شرطة في الكيان الجديد- أن أعضاء عصبة التحرر كانوا أول من حضر أمام السلطات الإسرائيلية ليعلنوا أنهم مواطنون في دولة إسرائيل!
– في منشور لعصبة التحرر من أيلول 1948 طالبت العصبة جيش الإنقاذ بالخروج من فلسطين تنفيذا لقرار الأمم المتحدة. بل إنها وصفت الجيوش العربية بأنها محتلة وأنها جيوش غزاة وخونة، ولذلك عليها “الخروج من بلادنا”…!
– أصدرت عصبة التحرر جريدة باسم “المقاومة الشعبية” (المقصود المقاومة الشعبية الصهيونية) دعت فيها إلى مقاومة الجيوش العربية. بل إن صحيفة “الاتحاد” احتفلت بـ، “تحرير الجليل” من جيش الإنقاذ، رغم أن الجليل كان يقع ضمن خارطة الجزء العربي في قرار التقسيم الذي دعمته وروجت له.
– أكثر من ذلك، فقد ذكرت وثائق الاستخبارات الصهيونية (شاي) أن هناك تعليمات واضحة بعدم التعرض للشيوعيين العرب وعدم ملاحقتهم، لأنهم قدموا خدمات لصالح إسرائيل. وللمعلومة فإن “شاي” كانت عمليا وحدة الاستخبارات في عصابة “الهجاناه” وأصبحت لاحقا نواة استخبارات الدولة الإسرائيلية.
– اعتبر الحزب قيام الدولة الإسرائيلية انتصارا لنضال شعبي وقف في وجه المؤامرات وفي وجه الإمبريالية. وهذا ما قاله الرفيق توفيق طوبي في خطاب له في الكنيست عام 1949:
(إن إقامة دولة إسرائيل ووقوفها أمام المؤامرات والتدخلات الإمبريالية كانت ممكنة من خلال مقاومة جماهير الشعب في إسرائيل وحربها للاستقلال والحرية، ونتيجة الدعم الذي حصلت عليه هذه القوات المحاربة من جميع الجهات الديمقراطية في العالم، وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي الديمقراطي الشعبي….).
نعم، نعم، صحيح ما تقرأون: الاتحاد السوفييتي كان ديمقراطيًا وشعبيًا حتى النخاع. بل حتى ما تحت النخاع!!
– ويضيف الرفيق توفيق:
(إن محاولات الإمبريالية لإفشال قرار التقسيم بإنشاء دولتين مستقلتين في أرض إسرائيل (א”י حسب تعبيره)، يهودية وعربية، والهجوم العسكري للإمبريالية من خلال عملائها الحكام العرب الرجعيين، بهدف منع قيام دولة إسرائيل، كل ذلك كان في ذات الوقت موجها أيضا ضد مصالح الشعوب العربية في أرض إسرائيل والبلاد العربية ضد إقامة دولة مستقلة وديمقراطية للشعب العربي في “إيرتس يسرائيل”.
لأجل ذلك: إوعَ يضحكوا عليك!!!
ثقافة سوفييتية وثوبٌ بألوان العلم الإسرائيلي:
راوية حبيبي، ابنة إميل حبيبي؛ أحد أكبر المنظرين للحزب الشيوعي، تقول في شهادة مصوّرة بالصوت والصورة: كنت في الحزب الشيوعي. ثقافتنا كانت أكثرها سوفييتية. وأعتقد أنها كانت على حساب ثقافتنا الفلسطينية. كنت أعيش بشعور أنني يجب أن أدفع ضريبة. لقد ألبسونا ثوبا أبيض وأزرق. العلم الإسرائيلي. لا أعرف. ربما كانوا قد سيطروا على عقلي أو وضعوني داخل قفص. يجب أن أكون مطيعة ولا أفكر. كنت أعيش داخل كذبة صدّقتُها. كنت أشعر أنّ هناك شيئا ما خطأ، لكنني لم أكن أفهم. كانوا يفهموننا، أو هكذا تربّيْنا، بأننا عرب إسرائيليون. كان عندي تشوه في هويتي. كنت أعرف ذلك ولكن لم أكن أفهم. أنا عربية فلسطينية.