يعتقدون أن أرض الضفة “طابو ربّاني” لهم.. تيار الصهيونية الدينية يتغلل بين المستوطنين وفي قيادات الجيش الإسرائيلي
تستغرق الطريق من وسط مدينة رام الله حيث مجمع النقل العمومي إلى مدينة نابلس (شمال الضفة الغربية) نحو ساعة، ولكن انتشار المستوطنين الإسرائيليين المسلّحين على طول الطريق في الأيام الأخيرة وتصاعد اعتداءاتهم أطال مدة الرحلة إلى 3 ساعات أحيانا.
ومع وصول المركبات إلى الحاجز الإسرائيلي بالقرب من مستوطنة “بيت إيل” المقامة في مدخل مدينتي رام الله والبيرة؛ اضطر السائق إلى أخذ طريق التفافية وعرة تجنبا لاعتداءات المستوطنين الذين كانوا يغلقون الشارع بحماية من جنود الاحتلال ويرشقون الفلسطينيين بالحجارة.
بعد أكثر من ساعة وصلنا إلى حاجز زعترة، في منتصف الطريق تقريبا باتجاه نابلس، وهنا بدأ السائق جولة اتصالات هاتفية للسؤال عن حال الطريق عند الحاجز التالي في بلدة حوارة قرب مستوطنة “يتسهار” المقامة على أراضي الفلسطينيين جنوب نابلس، وجاء الجواب بأن المنطقة مغلقة بالكامل بسبب تواجد المستوطنين الذين خرجوا للشوارع.
وقال السائق “لا أحد يغامر بالاقتراب من هؤلاء المستوطنين”. واتجه للبحث عن طريق بديلة لتجاوز خطرهم، وهو يعد المركبات التي تضررت وأصيب سائِقوها في الأيام الماضية بسبب اعتداءات المستوطنين.
وتُلخّص هجمات المستوطنين واعتداءاتهم -لا سيّما بين مستوطنتي “بيت إيل” و”يتسهار” وما حولهما من مستوطنات وبؤر استيطانية حديثة على طول الطريق الواصل بين رام الله ونابلس وسط وشمال الضفة- حكاية آلاف المتطرفين الأكثر عنفا تجاه الفلسطينيين.
فهذه الاعتداءات -وأن بدت ردة فعل على عمليات المقاومة الفلسطينية- فإنها في واقع الأمر ممنهجة وممتدة من عقيدة دينية لدى المستوطنين تتلخص في “قتل الغرباء على الأرض وتسريع نزول المخلّص وصولا إلى إعادة بناء الهيكل وإقامة دولة الرب الأبدية”، حسب العقيدة التلمودية التي يؤمن بها هؤلاء المستوطنون.
وفي إحصائية لهيئة مقاومة الجدار والاستيطان التابعة للسلطة الفلسطينية، بلغ عدد الاعتداءات التي نفذها المستوطنون خلال سبتمبر/أيلول 885 اعتداءً، منها 179 في محافظة رام الله، و121 في منطقة جنوب نابلس.
فمن المستوطنون الذين يقيمون بهذه المنطقة؟
ينتمي معظم هؤلاء المستوطنين إلى ما يُعرف بتيار “الصهيونية الدينية”، وهنا لا بد من التفريق بين هذا التيار وطائفة “الحريديم” أي المتدينين اليهود عموما.
وتاريخيا، كل المتدينين يُعرفون “بالحريديم” ولا يؤمنون بإقامة دولة إسرائيل قبل نزول المسيح المخلّص وإقامة الهيكل الثالث على أنقاض المسجد الأقصى، وفقا لتعاليمهم، وعارضوا إقامة إسرائيل والخدمة في جيشها، ويقتصر نشاطهم على الشعائر الدينية.
وانشقت من الحريديم مجموعة قدّمت تفسيرات جديدة للنصوص التوراتية، معتبرين أن المخلص ليس بالضرورة أن يكون فردا، بل يمكن أن يكون “الحركة الصهيونية” التي ستقيم دولة “اليهود الأبدية”، وأطلق على هؤلاء “الصهيونية الدينية”.
ويمكن التمييز بين التيارين عبر اللباس والهيئة؛ فالحريديم يطلقون السوالف ويلبسون اللباس الأسود الطويل، في حين يكتفي المتدينون الصهاينة بارتداء القبعة الصغيرة (الكيباه).
بقي هذا التيار ضعيفا حتى عام 1967، وكان يرى أن ما حققته إسرائيل بالسيطرة على أراض عربية إلى جانب فلسطين انتصار “ربّاني” للحركة الصهيونية، وتنامى هذا التيار بعد توقيع اتفاقية أوسلو (1993) وما وصفوه بالتنازل عن أجزاء من “أرض إسرائيل”، كما يقول الباحث في الشؤون الإسرائيلية عادل شديد.
ويقول شديد إن “اتفاقية أوسلو شكلت نقطة تحول لدى الصهيونية الدينية، إذ بدأ أتباعها بشكل ممنهج اختراق مفاصل دولة إسرائيل بدءا من الجيش”.
ما عددهم؟ وأين يسكنون؟
معظم أتباع الصهيونية الدينية يتواجدون في المستوطنات المقامة على الجبال الممتدة بين رام الله ونابلس وجبال جنوب الخليل (جنوب الضفة). ولا يوجد عدد واضح لحصرهم، خاصة أن “الحريديم” يشاركونهم العيش في هذه المستوطنات، حيث يفضلون السكن في مناطق تطبّق التعاليم الدينية على العيش في المدن العلمانية.
يقول الباحث في مركز القدس للدراسات الإسرائيلية عماد أبو عواد للجزيرة نت إن “هذه المستوطنات تكاد تخلو من العلمانيين اليهود، وعلى العكس فإن نمط الحياة المتشدد بالتعاليم الدينية منع كثيرين ممن يرغبون في الانتقال للعيش في المستوطنات من المدن”.
ما العقيدة التي يعتنقها هؤلاء؟
تؤمن الصهيونية الدينية بالتوراة المتداولة عند كل اليهود الصهاينة، ولكنها تختلف في التعاليم التلمودية. والتلمود (أي التعاليم) هو الكتب التي فسّرت التوراة، وتشمل آراء وفتاوى الحاخامات في الدين وقضايا أخرى.
ومن أهم الحاخامات الذين كانت آراؤهم أساسا للتلمود عند الصهيونية الدينية “كوك” الأب والابن؛ فالأب (توفي عام 1935) ربط التوبة والخلاص بالحركة الصهيونية، وقال “لا يبدأ الخلاص بمجيء المسيح بل بالاستيطان مجدّدا في أرض (إسرائيل) من خلال الصهيونيّة”. كما أكمل الابن (توفي عام 1982) بتأسيس حركة “غوش إيمونيم” الاستيطانية، التي كانت أساس الاستيطان في تلك المناطق، تمهيدا لاستقبال “المخلِّص” وبناء “مملكة الرب السعيدة”.
ويقول الباحث شديد إن الصهيونية اليهودية تؤمن -مثل التيارات الدينية الأخرى- بدولة اليهود الممتدة على أرض فلسطين والدول العربية، ولكن ما يميزها أن الأولوية لديهم “لأرض إسرائيل” وليس “للشعب اليهودي”.
وتابع مفسرا “هذا يعني أنهم على استعداد لأن يضحوا بأرواحهم من أجل الدفاع وحماية أرض إسرائيل، وهو ما يجعلهم يضعون الاستيطان أولوية يمنع التنازل عنها”.
ما سبب تمركزهم في الجبال الممتدة بين رام الله ونابلس؟
إن كانت الصهيونية الدينية تؤمن بأن بناء المستوطنات سبيل الخلاص، فإن جبال الضفة الغربية مكان هذا الخلاص، كما يقول أستاذ التاريخ والدين اليهودي في جامعة القدس أحمد رفيق عوض.
ويذكر عوض أن هذه المنطقة تحديدا -التي يطلق عليها توراتيا “السامرة”- تمثّل مسرح الأحداث التاريخية الكبرى حسب تفسيرات التوراة، ووفقا لهذه العقيدة فإنهم يملكون “طابو ربّاني” بهذه الأرض، ولا يعترفون بالواقع وبالفلسطينيين وبالقوانين الدولية والإنسانية.
ويتفق الباحث أبو عواد بقوله إن “ما يجعل مستوطنا إسرائيليا يسكن جبلا في منطقة تفتقر للخدمات الأساسية هو اعتقاده بأنه يتقرب من الرب ويقدّم تضحياته للحفاظ على الأرض التي ستقوم عليها مملكة اليهود حسب اعتقاده”.
وفي الحديث عن مستوطنة “بيت إيل” تحديدا، يذكر أنها مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي في الضفة الغربية، وهي أيضا مقر قيادات الصهيونية الدينية.
ويعود أبو عواد إلى التاريخ اليهودي القديم، الذي يقول عن “بيت إيل” (المقامة على أراضي قرية بيتين بمدخل رام الله والبيرة) إنها مدينة يهودية قديمة اسمها “بيت الرب” وتم تأسيسها بعد وفاة سليمان عليه السلام بـ200 سنة، لتكون مدينة روحانية ليهود مملكة الشمال، على غرار القدس التي كانت مركزا لمملكة الجنوب، بعد انقسام المملكتين، وفق رواياتهم.
لماذا هم الأكثر تشددا من بين المستوطنين؟
يقول الباحث شديد إن هذه المستوطنات معقل الصهيونية الدينية وتعليمها المتطرف تجاه الفلسطينيين، ومن ذلك أن تسريع قدوم “المخلّص” يكون بتهيئة الأرض وطرد من عليها من “أغيار” (الوصف التوراتي لغير اليهود) بشتى الوسائل، وحتى “بالقتل”.
ويستند قتل الفلسطينيين عند هؤلاء إلى فتاوى من حاخامات، كما يقول الباحث شديد “هناك فتاوى واضحة وصريحة فإن كل من ينكّل بالفلسطينيين ويقتل منهم يحصل على أجر رباني أكثر”.
وهذا ما نستطيع ملاحظته من خلال كتابات المستوطنين بعد الاعتداءات على ممتلكات المواطنين في البلدات بين رام الله ونابلس، التي تتلخص في 3 جمل “الموت للعرب”، و”محمد مات”، و”العربي الجيد هو العربي الذي تحت الأرض”.
ما مدى قوتهم في إسرائيل؟
لم تكن الصهيونية الدينية ذات ثقل في الحياة السياسية في إسرائيل، ومن بداية الاستيطان خلال السبعينيات وحتى نهاية الثمانينيات لم تتجاوز نسبتهم 35% من سكان المستوطنات، لكن الحال تغيرت في ما بعد وباتوا يشكلون أكثر من 80% من سكانها.
وأكثر من ذلك، عمل المتدينون الصهاينة خلال السنوات الفائتة على التغلغل في الجيش الإسرائيلي وقياداته، وبعد أن كانت نسبتهم 4% يشكلون الآن 40%، ويحتلون مناصب عليا بهيئة الأركان التي تتخذ القرارات. ويقول أبو عواد “إذا علمنا أن نسبتهم في المجتمع الإسرائيلي ككل لا تتعدى 12% نستطيع أن ندرك حجم قوتهم”.
وهذه القوة انعكست على الواقع بمزيد من العنف الممارس على الفلسطينيين، ليس فقط من المستوطنين بل من جنود جيش الاحتلال، و”نستطيع أن نلاحظ كيف غيّروا مفهوم تعامل جيش الاحتلال مع الفلسطينيين، حتى وصلنا إلى أوامر بإطلاق النار لمجرد الشك، وهو ما انعكس في عمليات قتل غير مبررة يقوم بها الجنود في الضفة”.
انطلاقا من كل المعطيات السابقة، يرى الباحثون أن اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين لن تتوقف، وعلى العكس فإن التوقعات بزيادتها هي الراجحة، ويتوقع شديد في حال تمكن معسكر العلمانيين بقيادة رئيس الحكومة الحالي يائير لبيد من الفوز في الانتخابات القادمة وتشكيل حكومة مستقرة؛ أن يذهب هذا التيار إلى مواجهة دموية مع الفلسطينيين في الضفة الغربية.
ولكن -في المقابل- هناك إجماع على أن هذا التيار الديني الاستيطاني يشكل خطرا داخليا على إسرائيل أيضا، كما يقول أبو عواد؛ فهؤلاء المستوطنون احتكروا المستوطنات في الضفة وباتت مناطق غير مرغوب السكن فيها لغيرهم، ومن جهة أخرى باتوا يتحكمون في السياسة الإسرائيلية، ويحتجون بكثير من العنف على كل من يخالف آراءهم بطريقة وصلت إلى حد القتل”.