القرضاويّ حالة نادرة التّكرر في الأمة
أ. د. مشهور فوّاز – رئيس المجلس الإسلاميّ للإفتاء
لا شك أنّ في الأمة من الفقهاء والعلماء والمفسرين والمحدّثين والحفّاظ من هم برتبة القرضاوي، بل هنالك من يفوقه في الفقه والحديث والتّفسير والحفظ.
ولكن ما يميّز القرضاوي عن غيره من علماءِ العصر، أنّه جُمِعَ فيه ما تفرّق في غيره، فهو فقيه ومحدّث ومفسّر متمكّن وصاحب همّة دعوية وخطيب بارعٌ يهزّ أعواد المنابر، يعيش الواقع وله فهم دقيق بفقه الأولويات والأقليات والمقاصد وذو خبرة عميقة وتجربة مديدة يجمع بين الأصالة والتّجديد، وينأى عن الإفراط والتّفريط يقدّم الأصول على الفروع والأهم على المهم والواجبات على الهيئات والمتفق عليه على المختلف فيه، يتمتع بروح الدّاعية الشفافة والبيان العذب الذّي يأسر القلوب قد حُبي بالحكمة مع الشجاعة والجرأة، يعرف متى يتحدّث ومتى يسكت يترفع عن الجدال المذموم النزاعات الجانبية غير المثمرة ويفرض نفسه بالإنجازات العملية التّي تؤتي أكلها وثمارها على المدى القريب وله نظرة استشرافية على المدى البعيد.
ومن المزايا التّي مُنِحَها الشّهرة العالمية حتى أصبح معروفًا لدى جميع الشّرائح المجتمعية سواء أهل العلم منهم والعوام حتى أصبح مدرسة متكاملة ولعلّ من أهمّ الأسباب التّي ساهمت بإعطائه هذه الشّهرة الواسعة اصطفافه بجانب الشّعوب المظلومة وعلى وجه الخصوص نصرته المتوقدة والمتجددة لقضية فلسطين والأقصى.
هذا هو موجز الأسباب الظّاهرة لنا. وأمّا بالنسبة للأسباب الخفية فهذه وبين ربّه ولذا بتقديري يصعب أن يملأ الفراغ الذّي تركه القرضاويّ عالمٌ آخر في الزّمن القريب.
هل القرضاويّ بلغ رتبة الاجتهاد؟
لو رجعنا إلى مؤلفات وأبحاث فضيلة الإمام القرضاوي “الفقهية” نجد أنّها تنقسم إلى قسمين: دراسات وأبحاث قد وافق في معظمها مذهبًا من المذاهب أو اجتهاد مجتهدٍ وقلّما يخرج بمسألة لم يقل بها سلفٌ له ولو كان القول مرجوحًا أو ضعيفًا، وهذا الجهد مع مكانته إلاّ أنّه لا يعتبر اجتهادًا، بل يعتبر تقليدًا محسنا وهو نفسه يسميه بالإتباع لأنّ الاجتهاد إنشاءٌ لقولٍ مباشرةً من الكتاب والسنة وليس اتباع لقول الغير والاستدلال والاستشهاد بأدلته كما هي معظم كتب الشيخ القرضاوي.
وأمّا القسم الآخر فهي أبحاث لمسائل مستجدة كالتبرع بالأعضاء وزراعة الأجنة ونحو ذلك فهذ يسمّى اجتهادُ تخريج ويندرج تحته الاجتهاد المعاصر، الذّي لم يغلق بابه وهو يسمّى اجتهاد من باب التّسامح لأنّه ليس استنباطًا من الأدلة التّشريعية كما يعرّف القرضاوي نفسه الاجتهاد بأنّه “بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط” وإنّما هو تأصيل على ما ذكره الأقدمون. وعلم تخريج الفروع على الأصول من العلوم المهمة والضرورية وبقدر إحاطة العالم بها يعظُمُ قدرُهُ وشرفُه ويظهر رونق فقهه، وفي ذلك يقول السّيوطيّ: “اعْلَمْ أَنَّ فَنّ الْأَشْبَاه وَالنَّظَائِر فَنّ عَظِيم، بِهِ يُطَّلَع عَلَى حَقَائِق الْفِقْه وَمَدَارِكه، وَمَآخِذه وَأَسْرَاره، وَيُتَمَهَّر فِي فَهْمه وَاسْتِحْضَاره، وَيُقْتَدَر عَلَى الْإِلْحَاق وَالتَّخْرِيج، وَمَعْرِفَة أَحْكَام الْمَسَائِل الَّتِي لَيْسَتْ بِمَسْطُورَةٍ، وَالْحَوَادِث وَالْوَقَائِع الَّتِي لَا تَنْقَضِي عَلَى مَمَرّ الزَّمَان، وَلِهَذَا قَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: الْفِقْه مَعْرِفَة النَّظَائِر””. (الأشباه والنّظائر، للسيوطي، ص 6).
والحقيقة قد بلغ الإمام القرضاوي هذه الرتبة من إلحاق الأشباه بنظائرها ولكن لا يمكن اعتباره مجتهدًا على الإطلاق كما يطلق البعض اللّفظ ولا مجتهد انتساب لأنّه أساسًا لا يجتهد على أصول مذهب معيّن كالمزني أو الرّبيع أو البويطيّ من أصحاب الشّافعي أو غيرهم من أصحاب الأئمة الأربعة.
ونظرًا لضعف الهمم وفساد الذّمم فإنّ الإمام القرضاوي قال: “وينبغي أن يكون الاجتهاد في عصرنا اجتهادًا جماعيا في صورة مجمع علمي يضم الكفايات الفقهية العالية، ويصدر أحكامه في شجاعة وحرية بعيدًا عن كل المؤثرات والضغوط الاجتماعية والسّياسية، ومع هذا لا غنى عن الاجتهاد الفردي، فهو الذي ينير الطريق أمام الاجتهاد الجماعي، بما يقدم من دراسات عميقة، وبحوث أصيلة مخدومة، بل إنّ عملية الاجتهاد في حدّ ذاتها عملية فردية قبل كل شيء. إن الاجتهاد الذي ننشده وندعو إليه- بقيوده وشروطه الشرعيةـ يمثل حاجة، بل ضرورة لحياتنا الإسلامية، وعلاج مشكلاتنا المعاصرة وإلا أصيبت حياتنا بالجمود والعفن، أو بحثت لأدوائهاـ في الغالبـ عن علاج من غير صيدلية الإسلام، فإن جمودنا ووقوفنا في موضعنا، لا يوقف الأفلاك عن الحركة، ولا الأرض عن الدوران”. (نقلًا عن موقع سماحة الشيخ يوسف القرضاوي نقلا عن كتاب الاجتهاد في الشّريعة الإسلامية- للشيخ القرضاوي).
هل نوافق القرضاوي في كلّ شيءٍ؟
القرضاوي نفسه لم يدّع لنفسه العصمة، بل هو من مؤسسي المدرسة الوسطية التّي تؤمن بالاختلاف وقبول الآخر، ولذا فإنّنا وإن كنّا نقدّر ونثمّن جهود الإمام القرضاوي العلمية في خدمة الأمة، ولكن نخالفه في أمور عديدة، أهمها:
أولا: التّوسع في باب التقليد حتى فتح باب إحياء المذاهب الدّراسة وذلك بهدف التوسعة والتيسير على الأمة، وهذا أمر خطير وذلك لما يلي:
أ. من المقرر فقهيا أنّ هذه المذاهب الدّارسة لم يثبت في الغالب سندها وهي عبارة عن أقوال متناثرة غير محققة ولا يعرف المناسبة ولا الظّرف الذّي قيلت فيه، بل هي مطلقة غير مقيدة ولا يعلم لعلّ قائلها قد تراجع عنها ولربما قد قالها قبل أن يصل إليه الدّليل أو لعدم علمه بالدّليل لأنّها قيلت قبل تدوين السّنة في الأغلب الأعم.
ب. أنّ كثيرًا هذه الأقوال المندرسة التّي لا يعلم سندها لقائلها ولم تعرف المناسبات التّي قيلت فيها هي أقوال مهجورة مخالفة للقواعد والأصول الشّرعية، بل لإجماع الأمة كالقول بإباحة ربا الفضل أو بعدم وقوع الطّلاق غير المشهود عليه وغير ذلك من الأقوال الشّاذة التّي اتفقت كلمة المجتهدين على عدم العمل بها وهذا يعطي ذريعة للبعض لتمرير مشاريع أو أفكار تخالف إجماع الأمة بدعوى وجود قول لبعض التّابعين.
ثانيا: نخالف الشّيخ القرضاوي بمخالفته المذاهب الأربعة لغير حاجة ولا ضرورة، بل باجتهاده الفردّي وهو بذلك يخالف الدعوة للاجتهاد الجماعيّ التّي دعا إليها كقوله بمصافحة المرأة الأجنبية إذا بادرته وكان هنالك حرج بالامتناع عن مصافحتها.
ثالثًا: نخالف الشّيخ القرضاوي بمخالفته جماهير أهل العلم والاعتماد على أقوال مرجوحة لغير حاجة أو ضرورة كالقول بعدم قضاء الحامل أو المرضع للصيام أو القول بإباحة الموسيقى بالضوابط التّي ذكرها ونحو ذلك.
ولكن هذا لا ينقص من قدره وقيمته ومكانته كعالم وكلّ يؤخذ منه ويردّ ولا عصمة لأحد غير الأنبياء.