بالضغط والتضييق تلتحم الأجزاء المتفرّقة

الشيخ رائد صلاح

لست من هواة المتابعة اليومية الدائمة لما يُكتب في صفحات التواصل، وقد يقال لي: هاجمك فلان عبر صفحة تواصله فأقول فورا ادعو له بالهداية، فلو عرف الحقيقة لما كتب ما كتب، أو لعل نفسه غلبته ولو غلب نفسه لما كتب ما كتب، أو لعلّ رجل سوء أغراه فأوقعه بما كتب ولو سلم من رجل السوء هذا لما كتب ما كتب، ولكن إلى جانب ذلك أجد نفسي في بعض الأحيان قد أطالع تغريدات بعض صفحات التواصل، فأحزن كثيرا على من كتبها أكثر مما أحزن على من كتب عنه، وأتألم ألما يعصر قلبي رغم أنّ جلّ ما أقرأه في صفحات التواصل، لا ناقة لي فيه ولا بعير، فلست أنا الذي كتب ما طالعت في صفحات التواصل، ولست أنا الذي كتبوا عنه في هذه الصفحات فغمزوا به ولمزوا، أو نالوا منه تجريحا وتسطيحا وتقبيحا، أو طعنوه برماح أقلامهم وسلقوه بكلماتهم الحداد، ومع ذلك أجد نفسي قد غرقت في بحر من الهمّ والغمّ وغمرتني الأحزان وسرت في كل شبر من جسدي الأوجاع بسبب ما أطالعه في صفحات التواصل، وينتابني شعور أن صفحات التواصل تسير بنا في كثير من الأحيان نحو آفة التدابر والتناحر والتشاجر في الوقت الذي كان يطمع فيه كل عاقل منّا أن تسير بنا نحو التراحم والتفاهم والتلاحم، ويمكن أن أسجّل بعض الملاحظات على ضوء ما طالعت من صفحات التواصل، وهي ليست كل الملاحظات التي في جعبتي، ولكن أكتفي مؤقتًا بهذه الملاحظات:

1.يصدمني حال البعض- وعددهم قليل بحمد الله تعالى- الذين يزعجهم نجاح الآخرين في مسيرة حياتهم، فيدفعهم الإنزعاج إلى تتبع أحوال الناجحين، وإلى محاولة النيل منهم عبر بعض صفحات التواصل، لا لسبب إلا لأنهم ناجحون، ويبدو أنهم لو فشلوا في مسيرة حياتهم لما كتب عنهم أولئك البعض ولما تتبعوهم ونالوا منهم عبر صفحات تواصلهم، ويبدو أن أولئك البعض يفرحهم فشل الآخرين ويطربهم تعثر الآخرين، وكأنهم في أحوال فشل الآخرين وتعثرهم يواصلون فرك أيديهم سعادة وسرورا ومتعة ولذّة، ويكتفون بهذه النتيجة ولا يجدون حاجة أن يشهروا أقلامهم من أغمادها، وأن ينثروا من على صفحات مواقعهم هجوم كلماتهم السلبية، ولكن كم تضيق صدورهم وتسوّد الدنيا في وجوههم إذا قيل لهم نجح فلان أو فلانة او نجحت المؤسسة الفلانية أو اللجنة الفلانية.

2.يصدمني حال البعض الآخر الذين يزعجهم أن يعمل الآخرون، وكأن هؤلاء البعض لا يريدون للآخرين أن يعملوا، وأن يواصلوا تنفيذ مشاريع جادة تصب في مصلحة كل مجتمعنا في الداخل الفلسطيني، وكأن هؤلاء البعض، ولأنهم لم يتقنوا في حياتهم إلا فن القيل والقال وكثرة السؤال، والتنظير والثرثرة السياسية أو الثرثرة الإعلامية أو الثرثرة الاجتماعية، كأني بهم ولأنهم كذلك يزعجهم أن يعمل الآخرون، لأنّ عمل الآخرين يبرز حالهم الذي لا يقوم إلا على مبدأ الكلام ثمّ الكلام ثمّ الكلام، وكأني بهم يتمنون لو أصابت جائحة شلل كل مجتمعنا، ووقف الجميع في مسيرة حياتهم عند الحد الذي وقف عنده هؤلاء البعض وهو زخرف القول ليس إلا.

3.يصدمني حال البعض الذين يعطون لأنفسهم منزلة العصمة من حيث لا يشعرون، فهو رد فعلهم الذي يعكس ذلك، وكأنهم معصومون، وكأنهم منزّهون عن الخطأ، وكأنهم وصلوا إلى مرحلة فهم عميق لا يمكن أن ينافسهم عليها أحد، ولذلك يلاحظ عليهم أنّ أي واحد من مجتمعنا إذا انتقد مواقفهم، فإنهم يستشيطون غضبا وإن كان هذا المنتقد لهم قد تحلّى بأدب النقد الصافي الشّفاف، ومع ذلك باتوا يعتبرون أنّ من انتقدهم بأسمى أدب النقد كأنه شتمهم، وكأنه أعلن العداء عليهم، وكأنه صادم أصول النقد البنّاء التي لا غنى لمجتمع راشد مبصر عنها، فلا أدري هل المطلوب هو صمت مجتمعنا عن مواقفهم حتى لو صادمت ثوابتنا الإسلامية العروبية الفلسطينية؟! وهل المطلوب هو إعلان التأييد التلقائي لهم ولمواقفهم مهما شطحت وباتت نشازا لا توافق حسّنا الوطني ونبضنا الديني وأصول انتمائنا.

4.يصدمني حال البعض الذي لا أنكر عليهم حق النقد، ولا أنكر عليهم حرصهم على انتقاد المواقف التي تصادم ثوابتنا الإسلامية العروبية الفلسطينية، ولا أنكر عليهم صدق نواياهم، ولكن أنكر عليهم قسوة كلماتهم وحدّة مصطلحاتهم التي يطوّعونها خلال نقدهم ومن على صفحات تواصلهم، وكأن اللغة العربية ضاقت بكلماتها ومصطلحاتها إلا ما يطوعونه منها من خلال نقدهم للآخرين. وعندها سينقلب النقد إلى هدم من حيث لا يشعر هؤلاء المنتقدون، وقد ينقلب تصحيحهم إلى تجريح، وقد تنقلب نبرة نصيحتهم إلى نبرة فضيحة، ولذلك كم أعجب وكم أحزن وكم يقف شعري، عندما أقرأ لهؤلاء المنتقدين، فأجد أن أحدهم لا يتردّد باستخدام ألفاظ السباب والشتيمة والتجريح بادّعاء أن هذه الألفاظ من ضرورات النقد، وهو ما ينكره ويرفضه ويأباه كل عاقل فينا!! ولنتصور كيف سيكون حالنا لو أننا جميعا استبحنا لأنفسنا استخدام كل هذه الكلمات والمصطلحات النابية التي تفوح منها رائحة الغيبة والنميمة والفسوق بادّعاء أنّ استخدامها من ضرورات النقد!! حاشا لله تعالى أن نكب على وجوهنا وأن نسقط في هذه الهاوية، لأننا سنصل إلى حال يتّسع فيه الخرق على الراقع، وقد تنهشنا فرقة قلوب لا معين عليها إلا الله تعالى.

5.فيا كل مجتمعنا في الداخل الفلسطيني، هّلا حوّلنا مواقع تواصلنا إلى جسور وصل لا إلى جسور قطع بيننا!! وهلّا حوّلناها إلى منبر بناء لا إلى منبر هدم، وإلى منبر توجيه لا إلى منبر تسفيه، وإلى منبر أدب لا إلى منبر نصب، وهلّا أخذنا على عاتقنا منذ الآن فصاعدا أن نتنافس على العمل والعطاء لا على مجرد الثرثرة ونحت الشعارات!! وهلّا اتفقنا اتفاقا صادقا وفيّا أن نتسابق في ميدان النجاح والإتقان، لا أن يبقى بعضنا منزعجا من نجاح الآخرين!! وهلّا اتسعت صدورنا لكل نقد هادف بنّاء يقوم على أدب النقد، وأدب الاختلاف، وأدب القول، وأدب الكتابة، وأدب صفحات التواصل، أليس في كل ذلك مندوحة عن كل هذه الآفات التي باتت تعجّ بها بعض صفحات تواصل بعضنا. وهلّا أخذنا بنصيحة المفكر جمال الدين الأفغاني التي يقول فيها: “بالضغط والتضييق تلتحم الأجزاء المتفرقة”.