السودان.. ركود واسع يضرب الأسواق مع زيادة جمارك الاستيراد
يجأر آلاف التجار في السودان بالشكوى من خسائر متوالية بسبب تعثّر تسويق بضائع تم استيرادها في الأشهر الستة الأخيرة، بعد ما امتنع المستهلكون عن الشراء نتيجة ارتفاع الأسعار، فكسدت عشرات السلع المتنوعة ما بين مواد غذائية وأثاث وملابس وغيرها.
ومع صعوبة الأوضاع التي يمرّ بها المستوردون، تفاجؤوا الأسبوع الماضي بقرار من هيئة الجمارك يقضى بزيادة سعر دولار الاستيراد.
وبالفعل، بدأت الحكومة -منذ الأحد الماضي- تطبيق الزيادة على الرسوم الجمركية برفع قيمتها من 445 جنيها إلى 564 جنيها سودانيا (الدولار يساوي 567 جنيها)، بزيادة تبلغ 26.8%.
وبحسب الغرفة القومية للمستوردين، فإن الزيادة الكبيرة في سعر صرف العملات الأجنبية في النظام الجمركي تنعكس على زيادة الرسوم الجمركية بنسبة 30.8%. وقد دعت الغرفة -في بيان صحفي- منسوبيها لوقف الاستيراد وعدم سداد الرسوم الجمركية والضريبية وأي رسوم حكومية مدة 3 أيام ابتداء من الأحد، حتى يتم التواصل مع الجهات التي أصدرت القرارات التي قالت إنها أحادية وتهدد قطاع المستوردين والقطاع الخاص بل الاقتصاد الوطني برمته، وفقا للبيان.
كما دعا اتحاد الغرف الصناعية إلى اجتماع طارئ لمناقشة الآثار المترتبة على رفع قيمة الدولار الجمركي، كما دعا أصحاب المصانع لوقف الإنتاج والتوقف عن البيع لحين دراسة هذه التطورات.
وتمثل زيادة سعر صرف الدولار الجمركي واحدة من زيادات عديدة فرضتها الحكومة السودانية على أسعار الخدمات والرسوم، لتغطية العجز الكبير في ميزانية الدولة بسبب المشكلات المتفاقمة التي يعانيها الاقتصاد السوداني منذ سنوات، وزاد عليه فقدان النظام الحاكم حاليا الدعم الدولي بعد تعليق البنك الدولي وصندوق النقد والولايات المتحدة والبلدان الأوروبية تدفقات بمليارات الدولارات بسبب قرارات رئيس مجلس السيادة القائد العام للجيش عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر/تشرين الأول ضد الحكومة المدنية.
كساد وخسائر
يقول تجار في سوق ليبيا، أحد أشهر الأسواق المركزية غرب العاصمة الخرطوم إن ركودا كبيرا يضرب سلعهم التي يبيعونها عادة بالجملة لصغار التجار في الأسواق الأخرى، ويؤكد التاجر جدو عوض الكريم أن أحواله توقفت منذ 7 أشهر لانعدام القوة الشرائية حتى خلال فترة الأعياد التي كانت في السابق موسما لتسويق كبير وأرباح متعاظمة، لكن حلّ مكانها الكساد بنحو غير مسبوق، كما يقول.
ويضيف، أن البضائع التي يعرضها الآن لم تطلها زيادات الدولار الجمركي الأخيرة، ورغم ذلك فإنها لا تجد من يشتريها، وهو ما يعني -وفق قوله- الاستعداد لتكبد خسائر أكبر حال جلب البضائع بالأسعار الجديدة.
وفي سوق أم درمان الذي يعد من المراكز التسويقية المشهورة بالأسعار المخفضة نسبيا، يبدو الوضع مختلفا عن السابق بغياب الازدحام المعهود، كما بدا لافتا -خلال جولة للجزيرة نت- عرض عشرات السلع الغذائية المستوردة بسعر منخفض للغاية لاقتراب موعد نهاية صلاحيتها، ومع ذلك يقول أحد التجار إن الإقبال عليها لا يزال ضعيفا.
ولمغالبة الكساد والبحث عن مشترين، درج عشرات التجار على تنظيم أسواق فرعية تقام في مناطق قريبة للأحياء السكنية في أيام محددة من الأسبوع، يتم فيها البيع بأسعار مخفضة نسبيا عن الأسواق الكبرى، ومع ذلك يقول تجار في سوق الأربعاء بضاحية جبرة (جنوب الخرطوم) إن مستوى الإقبال في تراجع مستمر.
ولا يفارق الهلع تجار الأجهزة الكهربائية المستوردة، إذ يشتكون من مستقبل غامض بعد توقف أنشطتهم منذ مطلع هذا العام بسبب عدم قدرة العملاء على ملاحقة الأسعار المرتفعة للأجهزة. ويقول التاجر محمد علي “لا أدري كيف يمكن مواجهة الزيادة الجديدة للجمارك، فسعر غالب الأجهزة سيزيد ما بين 60 و120 دولارا في الحد الأدنى، لمواكبة تغطية الرسوم الجديدة”.
وفوق كل الخسائر المتراكمة، يشير محمد علي إلى أن السلطات تطاردهم لتحصيل الضرائب والعوائد والزكاة دون أن يكون بمقدورهم تغطية النفقات اليومية للمتاجر، والمتمثلة في شراء الكهرباء بأسعار فلكية وتغطية مصروفات العمال البسطاء، وكل ذلك في نظره مؤشر للإفلاس وإغلاق عشرات المحال أبوابها خلال وقت قريب.
أما التاجر علاء الدين الجيلي الذي يعمل في استيراد ملابس الأطفال وبيعها في متجره بسوق شعبي بالخرطوم، فيقول إن الركود حاليا هو سيد الموقف، ولا يتردد في إرجاع هذا الوضع للتطورات السياسية الأخيرة والفراغ الدستوري الناجم عن غياب حكومة تنفيذية لأشهر طويلة، مما فتح الباب لاستغلال جهات عديدة الأوضاع واتخاذ قرارات دون النظر لعواقبها على التجار والمواطنين.
ويتحدث الجيلي عن أن تحريك سعر دولار الجمركي ليكون موازيا للسعر الرسمي سيخلق زيادات عالية بكل القطاعات، حيث يضطر التجار لمضاعفة الأسعار وهو ما ينتج عنه عدم قدرة المواطنين على الشراء في ظل ضعف الرواتب التي لا تغطي الاحتياجات الأساسية اليومية، كما يشير إلى أن الأوضاع المتأزمة خلال الأشهر الستة الأخيرة وما سبقها، دفعت بالعديد من التجار للخروج من الأسواق بعد تكبدهم خسائر كبيرة، بينما نقل المقتدرون منهم أعمالهم إلى خارج السودان.
صورة قاتمة
ويستبعد المحلل الاقتصادي سنهوري عيسى احتمالات تراجع الحكومة عن الزيادات الجمركية الأخيرة رغم آثارها الصعبة على القطاعات الإنتاجية والصناعية والتجارية، ويقول إن هيئة الجمارك تنفذ سياسات الدولة القائمة على تحرير سعر الصرف وتوحيده، ويرى أن محاولات نفي وزارة المالية زيادة الدولار الجمركي لا تلغي منحها الضوء الأخضر لهيئة الجمارك باعتبارها الجهة المنفذة، كما أنها تتبع إداريا لوزارة المالية.
ويؤكد المحلل أن تطبيق الزيادة والاستيراد بالسعر الجمركي الجديد سيرفع الأسعار بنسبة 30%، وقد تزيد على ذلك باعتبار أن التجار يرغبون في تحقيق أرباح لضمان عدم تآكل رأس المال والاستمرار في النشاط، وبالتالي تتضاعف الأسعار وتتفاقم معاناة الناس.
ويتابع “كذلك سيحدث ركود كبير جدا ويقلّ الطلب على شراء سلع الخدمات، وأيضا تتأثر قطاعات الإنتاج باعتبار أن المدخلات ستأتي لقطاعات الصناعة والزراعة وغيرها بسعر دولار جمركي عال، وبالتالي ترتفع تكلفة الإنتاج”.
ولن تؤدي خطوة الحكومة رفع دولار الاستيراد لتحقيق إيرادات عالية كما يقول سنهوري، بل ستظل الإيرادات ضعيفة لتراجع حجم الطلب على الاستيراد، كما ستقل الكميات المستوردة ويضعف العائد من الجمارك ولن تتمكن الدولة من تغطية العجز في الميزانية ومواجهة الصرف لتسيير دولاب الدولة، في ظل توقف المساعدات الدولية وتوقف حركة الإنتاج والصادرات.