اللهم نسألك هجرة صادقة إليك
أمية سليمان جبارين (أم البراء)
قبل أيام خلت أهلّت علينا ذكرى عظيمة على قلوبنا لِما تحوي هذه الذكرى من معانٍ جليلة وإشراقات مضيئة لا زلنا نقتبس من نورها لنستدل طريق الهداية. إنها ذكرى الهجرة النبوية، التي أحدثت نقلة نوعية في الدعوة الإسلامية، وأكسبت قوة وتمكينًا للرسول صلى الله عليه وسلم ولصحابته الكرام رضوان الله عليهم، حيث انتقلت الدعوة من مرحلة الضعف إلى مرحلة القوة، ومن مرحلة الدعوة المحلية إلى مرحلة الدعوة العالمية، ولا أدلّ على ذلك من بعث الرسل إلى الملوك، ومن مرحلة الملاحقة والهجرة من الوطن إلى مرحلة الاستقرار والتأسيس. نعم هذه أهم ثمرات الهجرة النبوية والتي كان ثمنها الكثير من التضحية، والكثير من العذاب والمعاناة التي طالت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، حتى أسسوا وبنوا النواة الأولى للدولة الإسلامية التي غيّرت مجرى تاريخ البشرية جمعاء، حيث نقلت العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الدنيا وضيقها إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام!! نعم بهذه الثمرات والنتائج وصل أسلافنا وأجدادنا من الصحابة والتابعين، والقادة الفاتحين إلى تحقيق بناء الإنسان والبنيان، وبناء حضارةٍ إسلاميةٍ عريقةٍ تتغنى بها جميع الحضارات والأمم وتشهد بفضلها على تقدم البشرية.
لذلك وحتى نعيد أمجادنا التليدة التي فقدناها أثناء فترة مرض أمتنا المسلمة وضعفها، بغض النظر عن الأسباب التي أدت إلى ذلك الضعف والهوان، علينا نحن كمسلمين، أن نوجه بوصلتنا وننطلق من جديد في هجرة دائمة إلى الله ورسوله!! من خلال العبودية المطلقة لله عز وجل والتأسي والاقتداء برسوله الهادي صلى الله عليه وسلم، وإخلاص النية وصدقها في التغيير نحو الأفضل لصالح هذه الأمة، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: (من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأه ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)، وبما أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن لا هجرة بعد الفتح (لأن مكة فُتحت وأصبحت دار إسلام)، إلا أن هنالك هجرة معنوية دائمة لا ترتبط بزمان أو مكان، بإمكان كل فرد مسلم أن يقوم بها حتى يستطيع النجاة والوصول إلى بر الأمان. والهجرة تعني الحركة الإيجابية التي تأتي بالخير على الفرد وعلى الأمة، وهذا ما حدث بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم. لذلك كانت ولا زالت حادثة الهجرة غنية بالدروس والعبر التي نستطيع الاستنباط منها في حياتنا المعاصرة، وجعلها بوصلة توجهنا إلى طريق الهداية والرشاد، لأنها تتمثل بالتحرك والانتقال من مكان إلى آخر أو من مرحلة إلى أخرى ومن أهم معالم هذه الهجرة:
1- هجرة العقل من الكفر إلى الإيمان: وتعني هجرة الأفكار المضللة الهدامة التي تؤدي إلى الإلحاد والضلال، وهي كذلك تتمثل بعبادة أصنام البشر من فراعنة العصر وتقديسهم أو تقديس أفكارهم الماجنة والإيمان بها والعمل على تحقيقها وتسخير كافة الامكانيات لتطبيقها، لكن الإنسان العاقل يتحرك للتحرر من كل عبودية إلا لله سبحانه وتعالى، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وكما ورد في الحديث الشريف: (تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة) فهجرة العقل تتطلب منا العمل على معرفة إسلامنا بحق ومعرفة شريعته والتعرف على سيرة رسوله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، وأن نُخرج من عقولنا كل فكر هدام يؤدي بنا إلى الابتعاد عن تعاليم شريعتنا السمحاء.
2- هجرة النفس من الهوى والشهوات إلى الطاعات والقربات. وجميعنا يعلم الكم الهائل من الشهوات التي تحيط بنا من كل جانب في هذا العصر، خاصة في ظل الانفتاح التكنولوجي من خلال وسائل السوشيال ميديا، وفي ظل العمل الدؤوب على إسقاط المرأة المسلمة في مستنقعات التبرج والاختلاط، وفي ظل الترويج للشذوذ الجنسي، وفي ظل الترويج للأفكار الإلحادية بين صفوف الشباب، من خلال العمل على هدم القيم والعقائد الإسلامية في عقول وأذهان الشباب، فهم يعملون ويواصلون الليل بالنهار من أجل تخريج جيل غارق في شهوات وملذات الحياة لا يعبأ أو يهتم قيد أُنملة لِما يدور حوله من أحداث. لذلك على كل فرد مسلم أن يهاجر بنفسه إلى الله تعالى ويتقرب إليه بالطاعات، وترك المنكرات والمعاصي، وأن يعتز بدينه ويفتخر بعروبيته وإسلاميته.
3- هجرة الأخلاق السيئة إلى الخلق الحسن: وتتمثل هذه الهجرة بالاقتداء بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم (وإنك لعلى خلق عظيم) كيف لا وهو الذي قال: (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق) فهجرة الأخلاق السيئة المتمثلة بكثرة الغضب، والعصبية والبخل، والنفاق، و….. وما إلى ذلك من أخلاق سيئة تبعد الفرد عن ربه، والعمل على ترسيخ الأخلاق الحسنة في نفوسنا، المتمثلة بالمحبة والحوار والكرم وكظم الغيظ و…… وما لا نهاية من الأخلاق الحسنة التي تقرب القلوب والنفوس وتساعد في بناء المجتمع المسلم على أساس متين وقوي.
4- هجرة القلب من محبة الكافرين إلى محبة الله والمؤمنين: نعم لا تستغرب!! قد نحب الكافرين، بل ويفوق حبهم حب الله والمؤمنين والعياذ بالله، أتدرون متى يحصل هذا؟ عندما أجعل الكافر قدوتي وأعتز به وأفتخر بما وصل إليه من أفكار هدامة للإسلام، عندما أخجل بديني وأتهمه بالنقصان، عندما أشعر بالنقص أمام الكافر وأشعر بالذلة والهوان أمامه، كما يفعل بعض المنهزمين فِكريًا الأذلاء من أبناء أمتنا للأسف الشديد، لكن المسلم الحق، هو الذي يجعل قلبه متعلقًا بالله وحده معتزًا بربوبيته، محبًا لنبيه، مطبقًا لشرائعه، متعاطفًا مع بني جلدته، شاعرًا بهمومهم وآلامهم.
5- هجرة الجسم من دار الكفر إلى دار الإيمان: وتتمثل هذه الهجرة بمغادرة وترك أي مكان أو إنسان أشعر أنه سيؤثر سلبًا على ديني سواء كان مكان عمل (يتعامل بالرشوة، يبيع خمرًا….) أو صحبة سوء فيجب على الفرد حالًا أن يهجر هذا المسبب وينتقل إلى مكان يربح فيه نفسه ويفوز بمغفرة الله عز وجل ورحمته.
هذه بعض معالم هجرتنا المعاصرة التي سنرتقي من خلالها علّنا ونستطيع تحقيق بعض ثمرات هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم، والانطلاق من هذه المعالم إلى تحقيق مآرب وأهداف هذه الهجرة الدائمة إلى الله جل جلاله. اللهم اجعل يومنا أفضل من أمسنا، واجعل غدنا أفضل من يومنا يا أكرم الأكرمين.