أبرز محطات تعثّر التحقيق وأسبابه.. عامان على انفجار مرفأ بيروت والعدالة عالقة
يحيي لبنان الذكرى الثانية للانفجار التاريخي الذي ضرب مرفأ بيروت ومحيطه، ولا تزال صوامع الحبوب واقفة كتمثال آيل للسقوط نتيجة تصدعات وحرائق تدمر أجزاء منها منذ أيام، وهي التي استوحى لبنانيون منها رمزا لمأساة تجذرت في ذاكرتهم.
ويقف ذوو ضحايا الانفجار عاجزين عن بلوغ العدالة لما يصفونها بـ”جريمة العصر”، ويحمّلون السلطات الرسمية مسؤولية عرقلة التحقيقات.
ذكرى بلا عدالة
وبيروت ما قبل السادسة مساء ٤ أغسطس/آب ٢٠٢٠ ليست كما بعدها حين هزها أحد أقوى انفجارات العالم غير النووية إثر اشتعال أطنان من نترات الأمونيوم كانت جزءا من حمولة تقدر بـ٢٧٥٠ طنا تم تخزينها في العنبر رقم ١٢ بعد مصادرتها من سفينة رست بالمرفأ منذ ٢٠١٤، ولم توضح السلطات مصير الحمولة المتبقية.
وابتلعت الصوامع -وفق خبراء- الكثير من عصف الانفجار الذي قتل أكثر من ٢٠٠ شخص وأصاب نحو ٦٥٠٠ ضحية، وتسبب بتشريد آلاف العائلات ودمار قدّر بمليارات الدولارات.
وينظر محيي الدين لاذقاني -وهو ممثل عن “جمعية ضحايا تفجير المرفأ” التي تنظم وقفات احتجاجية متقطعة مطالبة بالعدالة- إلى انهيار الصوامع كفصل من طمس معالم تلك الجريمة، وفق تعبيره.
وقُتل والد لاذقاني جراء تدمر منزلهم بمنطقة الأشرفية القريبة من المرفأ، وأصيب أشقاؤه بجروح، ويقول “نشعر أن السلطة تعاملنا باستخفاف وتتابع قتلنا بحرماننا من استكمال التحقيقات لكشف هوية من تسببوا بقتل أهلنا”.
ويعتبر أن الضغط سبيلهم الوحيد، متحدثا عن خيارات يبحثها الأهالي “كمطالبة المجتمع الدولي بلجنة تقصي حقائق دولية لفرض رقابة صارمة على التحقيق المحلي، لأن آمالنا تتضاءل به بفعل التدخلات السياسية”.
موقوفون منذ عامين
بالتوازي، يستمر اعتقال نحو ١٧ موقوفا من عمال وإداريين بالمرفأ منذ عامين بلا توجيه اتهام ضدهم، وترتبط محاكمتهم أو إطلاق سراحهم بمصير التحقيقات، ويصف خبراء توقيفهم بالتعسفي وغير القانوني.
ومن بين هؤلاء، المتعهد سليم شبلي الذي أرسل ٣ من عماله السوريين لتلحيم باب العنبر ١٢ بطلب مباشر من إدارة المرفأ، وغادروا قبل وقوع الانفجار، وفق ما تقول زوجته جمانة.
وتصف توقيفه مع اثنين من عماله بلا محاكمة بالاستضعاف والظلم الذي يتنافى مع أبسط أسس العدالة وحق الموقوف بالمحاكمة السريعة.
وقالت “لا نعلم طبيعة التهمة الموجهة إليهم، فهم لا يملكون أي سلطة فعلية داخل المرفأ”.
مسار القضية
وللمرة الرابعة، تتعطل التحقيقات بانفجار المرفأ، فيما أثار المحقق العدلي طارق البيطار انقساما سياسيا وشعبيا حادا بين مؤيدين ومعارضين له.
ونسترجع أبرز المحطات الزمنية للتحقيق:
- في ١١ أغسطس/آب ٢٠٢٠ وعقب زيارة الرئيس الفرنسي إيمانول ماكرون لبيروت قررت حكومة حسان دياب بعد استقالتها إحالة ملف الانفجار إلى المجلس العدلي.
والمجلس العدلي في لبنان هو محكمة جزائية استثنائية لا ترتبط بالقضاء العادي أو العسكري، وتعين الحكومة قضاتها بموجب مرسوم بناء على اقتراح وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الأعلى، ووفقا لنظامها يتوجب على قاضي التحقيق إجراء التحقيقات مع المشتبه بهم والشهود والإشراف على عمل الخبراء، ويصدر قرار الاتهام الذي يحدد بموجبه الأشخاص الذين سيحاكمون أمام المجلس العدلي وبأي تهم. - في ١٣ أغسطس/آب ٢٠٢٠ عينت وزيرة العدل ماري كلود نجم القاضي فادي صوان محققا عدليا.
- في ١٨ فبراير/شباط ٢٠٢١ قررت محكمة التمييز نقل الدعوى من القاضي صوان إلى قاض آخر بسبب دعاوى الارتياب بحقه من قبل وزير الأشغال السابق غازي زعيتر ووزير المالية السابق علي حسن خليل (نائبان عن حركة أمل).
- في ١٩ فبراير/شباط ٢٠٢١ عينت وزيرة العدل القاضي طارق البيطار محققا عدليا، ومنذ ذلك الحين أصر البيطار استنادا إلى تحقيقاته على استدعاء رئيس الوزراء حسان دياب، وخليل، وزعيتر، ووزير الداخلية السابق نهاد المشنوق للتحقيق، وسقطت بعض دعاوى “الارتياب المشروع” ضده، إضافة إلى طلبه استجواب مسؤولين أمنيين كبار.
- في سبتمبر/أيلول ٢٠٢١ تقدم نهاد المشنوق بطلب أمام محكمة الاستئناف لعزل البيطار، فرُفض طلبه.
- في أكتوبر/تشرين الأول ٢٠٢١ تقدم حسن خليل وزعيتر إلى المحكمة بطلب ثان لتنحية البيطار، فعلق الأخير جلسات التحقيق إلى حين البت بالطلب، كما أصدر في الشهر عينه مذكرة توقيف بحق خليل لامتناعه عن المثول أمامه.
- في ١٤ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠٢١ رفضت محكمة التمييز طلب عزل البيطار.
- منذ ٢٣ ديسمبر/كانون الأول ٢٠٢١ توقف البيطار عن التحقيق بفعل توالي دعاوى الرد ضده.
تعليق التحقيق.. وهستيريا الدعاوى
تتسلسل إجراءات التحقيق والمحاكمة في المجلس العدلي بـ5 محطات: التحقيقات السرية، القرار الاتهامي، ثم إجراءات المحاكمة التمهيدية، جلسات المحاكمة العلنية، الحكم النهائي (مرحلة المحاكمة أمام المجلس العدلي).
وحتى الآن لا يزال التحقيق عالقا في المرحلة الأولى (التحقيقات السرية)، بحسب المحامية ومسؤولة التقاضي في المفكرة القانونية غيدة فرنجية.
وترى فرنجية، أن الملف انتقل إلى مرحلة خطيرة قانونيا وسياسيا واجتماعيا، وهي “ترسيخ نظام الإفلات من العقاب” عبر تذرع المسؤولين بالحصانات.
ويفيد الخبير الدستوري بول مرقص بأن السبب المباشر لتعطيل التحقيق هو طلبات الرد ودعاوى مخاصمة الدولة، والبت بها يستوجب إصدار التشكيلات القضائية.
ووسط “هستيريا الدعاوى” -التي تزيد على ٢١ دعوى من قبل الوزراء السابقين لسحب الملف من يد البيطار- جاءت دعاوى أخرى من بعض الموقوفين وأهالي الضحايا.
لكن تعليق التحقيق منذ ٨ أشهر سببه -وفقا لغيدة فرنجية- أن زعيتر وحسن خليل تقدما أيضا بدعوى مخاصمة الدولة ضد رئيس الغرفة الأولى لدى محكمة التمييز القاضي ناجي عيد الناظر بطلب رد البيطار.
والدعوى الأخيرة أمام “الهيئة العامة” لمحكمة التمييز نفسها التي فقدت نصابها القانوني (٥ قضاة من أصل ١٠) بسبب إحالة أحد قضاتها إلى التقاعد، وبالتالي لا تستطيع الانعقاد إلا بموجب تعيينات قضائية شاملة لملء المواقع الشاغرة، وفقا لمرسوم حكومي يجب صدوره موقعا بعد إنجازه لدى مجلس القضاء، ثم توقيعه من وزيري العدل والمالية ورئيسي الحكومة والجمهورية.
وتوضح فرنجية أن مرسوم التشكيلات الذي وقعه وزير العدل هنري الخوري علّق منذ أشهر لدى وزير المالية يوسف الخليل (مقرب من حركة أمل)، ويمتنع عن توقيعه باعتبار أن التشكيلات لا تراعي التوازن الطائفي.
وقالت إن محكمة التمييز اليوم غير قادرة على البت بالدعاوى ضد البيطار، وأصبح الإفراج عن التحقيقات بيد الحكومة التي لا توقع التشكيلات.
وفي أول جلسة عامة للبرلمان الجديد فاز ٧ نواب بالتزكية كأعضاء في المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، ويطالب الوزراء السابقون باستجوابهم أمام هذا المجلس الذي يجمع بين السلطتين التشريعية والقضائية -بدل المجلس العدلي- علما أنه لم ينعقد لمحاسبة أي مسؤول منذ تأسيسه في التسعينيات.
مصير التحقيق
بدوره، يشير الخبير الدستوري بول مرقص إلى أن القاضي البيطار ليس أمامه خيارات سوى الامتثال لنصوص القانون التي تلزمه بوقف التحقيق العدلي إلى حين البت بطلبات الرد بحقه.
من جانبها، تذكر غيدة فرنجية أن لبنان لم يشهد منذ نحو 30 عاما بعد الحرب الأهلية محاسبة حقيقية للمسؤولين عن الجرائم المرتكبة، لكن في العامين الأخيرين “تجلت أكثر تركيبة نظام الإفلات من العقاب، ليس بتحقيق المرفأ فحسب، بل بكل التحقيقات الجارية بالقضايا المصرفية ومع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وغيره”.
وتلفت الخبيرة إلى أن كل قاضٍ يلاحق شخصية نافذة “بدل تركيز النقاش على الأدلة التي بحوزته يتم رفع دعاوى الارتياب والرد لكف يده، فاجتمعت معظم أركان السلطة السياسية على كيفية إضعاف القضاء والقضاة”.
ولتفعيل نظام المحاسبة تعتبر فرنجية أن لبنان بحاجة لمشاريع قوانين تحد من التعسف باستخدام حق الدفاع والتقاضي، كمنع تقديم أكثر من دعوى وإلزام المحاكم بمهلة زمنية للبت بالدعاوى وضمان استقلالية القضاء.