قالت العراقيب كلمتها
الشيخ رائد صلاح
أقامت بلدة العراقيب منزوعة الاعتراف مهرجانها السنوي الثاني عشر يوم السبت الموافق 23/7/2022، رغم أن المؤسسة الإسرائيلية قامت بهدمها مائتين وأربع مرات، ومع ذلك أقامت بلدة العراقيب مهرجانها. وها هي منصة هذا المهرجان قد شهدت الحديث عن الصمود حديثا صادقا جادا ممن يعيشون هذا الصمود واقعا حياتيا موجعا ومؤلما يقوم على الصبر واليقين. وها هي العراقيب قالت كلمتها مخاطبة كل أهلنا في الداخل الفلسطيني بخاصة وكل أهل الأرض بعامة من على هذه المنصة.
قالت العراقيب كلمتها مؤكدة على صمودها الشامخ الأبيّ، وهي تقول: إنّا باقون ما بقي الزعتر والزيتون!! إنا صامدون صمودا له جذور ممتدة في عمق أرضنا، ومتشعبة في كل ذرّة من ترابنا، ومتواصلة مع كل بيوتنا ومقدساتنا وشيحنا وقيصومنا وهكذا كنا، وهكذا سنبقى، وهكذا سنحفظ هذا العهد ميراثا تتناقله أجيالنا، بداية من جيل أجداد وآباء الشيخ صياح إلى جيل الشيخ صياح، ثم إلى جيل أبناء الشيخ صياح، ثم إلى جيل أحفاد الشيخ صياح، ثم إلى جيل أحفاد أحفاد الشيخ صياح، حتى يأتي أمر الله تعالى ونحن كذلك.
قالت العراقيب كلمتها مؤكدة أن قضيتها قضية حق يأبى النسيان، ولأنها قضية حق فهي قضية منتصرة على كل ظلم وباطل وبهتان عاجلا أو آجلا، ولأنها قضية حق فهي قضية لا تمرض ولا تهزل ولا تهرم ولا تشيخ ولا تخرج إلى التقاعد ولا ترضى لنفسها الانكفاء على ذاتها مقعدة مشلولة في مستشفى العجزة أو نادي المسنين، بل كانت فتيّة وستبقى فتيّة، وكانت مشرقة بالأمل وستبقى مشرقة بالأمل، وكانت عامرة بالهمّة وستبقى عامرة بالهمة، وكانت وافرة بالتفاؤل وستبقى وافرة بالتفاؤل، وكانت خافقة اللواء وستبقى خافقة اللواء. وقد تتعاقب عليها السنون والعقود إلا أنها ستبقى القضية التي تفرض نفسها دون أن يطويها النسيان، وكأنها قضية انتصبت الآن. وإن مضى عليها عقود من السنين، فستبقى كأنها قضية انتصبت الآن، فلا ماض يدفنها، ولا حاضر يوهنها، ولا مستقبل يحجبها، بل ستبقى حتى تقول كلمتها الأخيرة منتصرة لحقها الأبدي الذي هو فوق تقادم الأيام.
قالت العراقيب كلمتها مؤكدة أن صمودها سلعة غالية، لا تباع ولا تشترى، وهي ليست سلعة نفعية دنيوية قابلة للعرض والطلب، أو قابلة لقوانين المزاد العلني وبيع من يزيد، أو قابلة للمساومة المهزومة والتفاوض الخاسر، مما قد يؤدي إلى قصقصة ريشها، أو قطع جناحيها، أو بتر رجليها أو كتع يديها، بل هي قضية صمود الصمود، الذي ما كان ولن يكون في يوم من الأيام فقيرا إلى دعم جمعية غامضة قد تكون منّا أو من غيرنا، تطمع أن تعطي بيد لتفرض أجنداتها بيدها الأخرى!! ولن يكون صمود الصمود هذا فقيرا إلى دعم سياسي يغمز بعين تأييدا للعراقيب ويغمز بعينه الأخرى تصديقا بعد تصديق على هدم العراقيب ثم هدم العراقيب ثم هدم العراقيب!! بل هي العراقيب التي كانت ولا تزال تتوج رأسها بتاج صمود الصمود الذي يبقى حيا بعد توكله على الله تعالى دون مال ملغوم أو دعم مجروح.
قالت العراقيب كلمتها مؤكدة أنّها رضيت لنفسها أن تبقى قنديلا مضيئا، لا لأهلها فقط، ولا لأهلنا في النقب فقط، بل لنا جميعا، ولأنها كانت ولا تزال قنديلا، ولأن القنديل يحتاج إلى زيت حتى يبقى مضيئا، فهي العراقيب التي كانت ولا تزال تحرق زيتها، حتى تبقى قنديلا يضيء لنا جميعا، وهي العراقيب التي رضيت لنفسها أن تصبر على حرّ نار هذا القنديل حتى تبقى تضيء لنا جميعا، وهي العراقيب التي باتت تجود بنور هذا القنديل ولسان حالها يقول: لا تقفوا عند حد لعن ظلام الظلم والقهر والاستبداد، بل كونوا قنديل صمود في أرضكم وبيوتكم ومقدساتكم يبدد هذا الظلام!! بل وكأني بالعراقيب تصيح فينا ناصحة أمينة: إن لم أرض أنا وإن لم يرض غيري أن نكون شمعة حتى لا نذوب بنار الصبر والصمود فمن يضيء ليلنا، ومن يضيء درب المدلجين منا نحو معالي الكرامة والحرية والانعتاق.
قالت العراقيب كلمتها مؤكدة أنها فوق إغراء كل وسواس خناس، فكم ساوموها على حقها كي ترضى بالدون منه بدعوى مبررات الواقعية وفهم الواقع، وبدعوى الحنكة السياسية وفقه المصالح، وبدعوى استحقاقات المرحلة ومرونة الموقف، لكن العراقيب رفضت لبوصلتها أن تنحرف عن الجادة المستقيمة، ورغم مرارة الهدم الذي كانت ولا تزال تذوقه كل برهة من الزمن، ورغم وجع السجون والاعتقالات والمطاردات والمحاكمات التي تعرضت لها، ورغم مخالفة البعيد وخذلان القريب لها إلا أنها وكالقابض على الجمر، كانت ولا تزال تقبض على ثوابت حقها، فهي العراقيب التي قامت قبل المؤسسة الإسرائيلية بعقود وعقود من السنين، وهي العراقيب التي لا تزال تحضن في ترابها جيل المؤسسين لها، الذين كانوا قد سكنوا بيوتها، وها هم اليوم يسكنون قبورها، وإلى جانبهم هي العراقيب التي لا تزال تحضن جيل المنزرعين فيها من رجالها ونسائها وشبابها وأطفالها مؤكدة لأمواتها أنها على العهد معهم ومع ميراثهم، ومؤكدة لأحيائها أنها على العهد معهم ومع عدالة قضيتهم. وما دامت كذلك فهي العراقيب التي تأبى الهزيمة.
قالت العراقيب كلمتها مؤكدة أنها رغم الزمن الصعب الذي تعيش فيه ورغم رياح الفتن والهوان والاستسلام والتبعية والدونية التي تزأر من حولها إلا أنها ستبقى رغم هذه الأجواء القائمة المحبطة المثبطة نقطة ضوء كنجمة متوهجة في ليل بهيم، ولسان حالها يقول:
كن بلسما إن صار غيرك أرقما وحلاوة إن صار غيرك علقما.
وكأني بها تقول: سأبقى مشهد ثبات على الثوابت، وإن رضي غيري لنفسه أن يتنازل عن الثوابت، وسأبقى نموذج كبرياء بالحق وإن رضي غيري لنفسه أن يتحول إلى نموذج تنازل عن الحق، وسأبقى مثل رسوخ وشموخ وإن رضي غيري لنفسه أن يتعثر في تيه التبعية والرضوخ، فأنا العراقيب كنت كذلك، وسأبقى كذلك، وسألقى الله تعالى كذلك. أنا العراقيب، أنا العراقيب، أنا العراقيب.