الداخل الفلسطيني الراهن، التــحديات والمستقبل (3)
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
المقدمة الثالثة..
حدّد بن غوريون في خطابه عام 1951 في الكنيست (5/11/1951) الاحتياجات الأساسية التي تعتمدها إسرائيل في إطار رؤية استراتيجية عليا حاكمة وناظمة لإسرائيل مستقبلًا، وهذه الاحتياجات كما يرشح من خطابه تناولت الأمن والقدوم لإسرائيل، وتطوير ونماء البلاد، والعلاقات مع يهود الشتات، والسلام اليهودي -العربي وتعزيز السلام. واعتبر أنّ السياسات الخارجية تنبع اساسًا من المصالح الداخلية لإسرائيل القائمة على ديمومتها. وفي السياق ذاته، بنى سياساته اتجاه الفلسطينيين على عدم الاعتراف بهم كنقيض للديمومة من جهة، ورهانه على امتلاك القوة، وبالتالي فمنذ عام 1936 شرع بالحديث عن حرب ستستمر مئة عام مع العرب (بن غوروين والمسألة العربية، شفتاي تيبت)، وسعى لتفكيك العرب، مجتمعات وحكومات، ولذلك استمر بن غوريون في إدارة ملف الداخل الفلسطيني حتى عام 1963، كما يبيّن ذلك منصور وينزيمان في كتابهما “سكان ثانويون”.
راهنت الحركة الصهيونية قبل قيام إسرائيل على اختراق الأقليات في منطقة الشرق الأوسط، كما راهنت على تلكم الدول التي ارتبطت بالمنظومة الغربية ومعسكرها الامبريالي ضمن مخطط ينفذ سياسات فرقّ تَسًدْ بين الدول العربية والإسلامية، وذلك ضمن سياسات بن غوريون الذي اعتبر الفلسطيني في الداخل خطرًا إستراتيجيًا يستوجب دوام المُراقبة والضبط، ولإتمام هذه المسألة ذات الطابع الإستراتيجي، كان من حاجات المؤسسة الإسرائيلية الاستمرار بسياسات زرعت بذورها الحركة الصهيونية بفترة “الييشوف” خلاصاتها التواصل مع الدول الإسلامية والعربية ومع عدد من الأقليات في المنطقة، سعيًا لتفكيك المنطقة حتى لا يستشعر الفلسطيني فردًا ومجتمعًا أنه جزءٌ من الأمة العربية أو الإسلامية، تحقيقًا للاستفراد به وممارسة سياسات التخلية والتحلية وإدخال الإحباط إليه نفسيًا ومجتمعيًا.
المؤسسة الإسرائيلية عمليًا سعت ونجحت في مسعاها فصل الأقلية العربية الفلسطينية عن الشعب الفلسطيني والأمتين العربية والفلسطينية، ضمن سياسات شرعت بالإعداد لها قبل النكبة في فترة “الييشوف” حيث لعب الاحتلال البريطاني ومن بعد الولايات المتحدة، دورًا هامًا ،لكن هذا “المسعى” دخل مرحلتين، مرحلة التواصل مع الأقلية الفلسطينية- التي بقيت على أرضها بعد قيام إسرائيل وحملت الجنسية الإسرائيلية- الذي عاد مع محاذير شديدة بعد النكسة عام 1967 وبعد الحج عام 1978 وهذه العودة التي لا تزال قائمة ضمن مفاعيل كثيرة ما زالت تعتورها العثرات والعراقيل، وقد أُسس على ما ذكرت منهجا المُدافعة والمغالبة وكلاهما لما تتوافر كفاية هياكلهما العملياتية والتنظيرية في السياق الفلسطيني داخليًا، بل إن عوامل عديدة تعتبر تحديات في مساري المُدافعة والمُغالبة وأن جرت في العشريتين الأخيرتين أي بعد هبة القدس والأقصى.
العديد من التطورات السياسية في الداخل الفلسطيني قُطِعت داخليًا لأسباب كثيرة تتعلق بعوامل مختلفة، قسمٌ منها متعلق بالحراك السياسي الداخلي أي في الداخل الفلسطيني وتعاريجه وتناقضاته، وآخر من السلطات مباشرة كما حدث مع إخراج الحركة الإسلامية عن القانون أواخر عام 2015 وملاحقة عدد من قياداتها إلى هذه اللحظات.
وفي صيرورات الأحداث السياسية والاجتماعية في الداخل الفلسطيني بين سنوات 2000 و2022 بيانٌ لما أقول. ومن ثم فإنّ أحداث رمضان الفائت للعام 1442 هجرية، كشفت عن تداخل هذين المنهجين في سؤال الصراع القائم بين الفلسطينيين وإسرائيل، دولة واحتلال، وتعتبر مسائل الاستيطان الصهيو-ديني في المدن الساحلية والتحديات الوجودية في النقب، من القضايا ذات الصلة، سببًا بينًا للمدافعات التي شرعت بالظهور مطلع هذا القرن، ورافقتها قضايا المغالبة في العشرية الثانية، لتتجلى بما أطلق عليه هبة الكرامة وبيان البُعد الديني كمؤسس هوياتي وعملياتي فيها.
في السياق ذاته، لم تكن إسرائيل قط محاصرة من الدول العربية كما تشير الأدبيات التاريخية الصهيونية والإسرائيلية، وفي هذه الحقيقة التاريخية يكتب ايلي فودة في كتابه (من عشيقة في السر إلى عشيقة في العلن: العلاقات السّرية بين إسرائيل مع دول وأقليات في منطقة الشرق الأوسط 1948-2020، إصدار عام 2022): “في الحقيقة لم تكن إسرائيل دولة معزولة في المنطقة، فالأرشيفات كشفت عن علاقات متشعبة منذ خمسينات القرن الماضي، فعلى الرغم من أنّ دولًا عربية واسلامية قاطعت إسرائيل بل وكانت بين بعض الدول حروب شرسة، إلا أنّ علاقات سرية متفرعة وعميقة كانت بين إسرائيل ودول في منطقة الأوسط مثل تركيا وايران والمغرب والأردن واليمن والسودان والأقليات الكردية في العراق وغيرها وهذه العلاقات خرجت من السر إلى العلن رويدًا رويدا”. بتصرف (ص9-13).
تأتي أهمية هذا الاقتباس لتأكيد سياسات إسرائيل التي تدمج بين السياسة والعامل النفسي كعامل يستثمر لإبقاء الداخل الفلسطيني في دائرة الإحباط والرقابة الدائمة داخليًا وخارجيًا، إذ بيان أنّ إسرائيل على علاقات وطيدة مع محيطها العربي والإسلامي خاصة في السياقات الأمنية، تبقي الأقلية الفلسطينية في الداخل تعيش هاجسًا من الخوف والتوحد والعزلة.
صحيح أنّ العصر الرقمي الذي نعيش لعب دورًا أساسًا في هز هذه المعادلة، إلا أنّ العديد من الأبحاث والدراسات والمسوحات التي جرت بين سنوات 2014 و2015 أكدت على أن ّ 70% من الإسرائيليين لا يعتبرون أنفسهم جزءًا من المنظومة الغربية الأنجلوسكسونية، وفي السنوات الأخيرة تعززت هذه القناعات بفعل العملية التثويرية التي يقودها التيار الديني-الصهيوني الذي يرى بالعرب والمسلمين لصوصًا وقطاعَ طرق ويحتقر الثقافة العربية.
نجحت إسرائيل ومن قبل الحركة الصهيونية في تفكيك الحالتين الاجتماعية والسياسية في العالم العربي، ومعرفة نقاط القوة والضعف وكيفية استثمارها لصالح تعزيز وجودها الأمني والسياسي، وهي نفس السياسات التي استعمَلتها مع الداخل الفلسطيني، ولذلك فثمة خيوط جامعة بين السياسات وتنفيذها من جهة والبعد الأمني كمنظور استراتيجي من جهة ثانية، فكما ان إضعاف الدول العربية وإغراقها في المشاكل الداخلية يعدّ ربحًا صافيًا لها، كذلك إضعاف الداخل الفلسطيني وتفكيكه وإغراقه في المشاكل يعتبر ربحًا صافيًا راهنًا ومستقبلًا، وبالتالي تتضاعف التحديات وتتحول بعض الأفعال السياسية إلى نوع من التحدي. في هذا السياق، الإشارة إلى مشاركة الموحدة في حكومة إسرائيلية مع ما طرحته سابقًا هو إشكال وتحدٍ وبيان لحجم التحدي النازل على المجتمع الفلسطيني في الداخل راهنًا ومستقبلًا.