أخبار رئيسيةمقالاتومضات

ماذا يفعل محمود إذ لم يُعطِ المعبود؟

الشيخ كمال خطيب

يُحكى أن السلطان العثماني محمود الأول أراد أن يتحسس الحالة الاجتماعية بين رعيته وأن يكون ذلك عن قرب وبشكل مباشر بدون الاعتماد على ما ينقله إليه مستشاروه ووزراؤه.

غيّر السلطان هيئته ولبس ملابس عامة الناس بعيدًا عن اللباس الذي اعتاد أن يلبسه السلاطين والخلفاء وراح يمشي في أسواق اسطنبول وأزقّتها، ثم دخل إلى مقهى شعبي يحتسي فيه الجالسون القهوة والشاي.

جلس السلطان محمود وراح يتأمل في وجوه الجالسين من غير أن يشعر به أحد ويستمع إلى أحاديثهم وما يدور بينهم. وخلال تلك الجلسة لفت انتباهه أن الجالسين كلما أراد أحدهم أن يطلب حاجة أو قهوة أو ماء أو غير ذلك فكان ينادي النادل قائلًا: هات شاي يا عم مغلق، هات قهوة يا عم مغلق. استغرب السلطان محمود من هذا النداء، وهل اسم النادل فعلًا “مغلق” أم أن في الأمر شيئًا؟!

ناداه السلطان قائلًا: هات شاي يا عم مغلق، ولما أن جاء بالشاي أجلسه إلى جانبه دون أن يعرفه النادل وسأله عن سبب تسميته بهذا الاسم، فقال النادل الكهل: كان أبي تاجرًا مشهورًا وكنت أعمل معه بالتجارة، ولما مات أبي وقد ورثت عنه تجارته وأمواله وأردت أن أكمل مسيرته إلا أن تجارتي تعثرت وصفقاتي خسرت، وأصبحت أخرج مدخراتي أنفق منها وعبثًا كانت النتيجة، استدنت من أصدقاء أبي لكن الحال ازداد سوءًا وخسرت أموالي، كانت لي حوانيت ومتاجر كثيرة فأغلقتها وتحوّلت من الغنى إلى الفقر وقد أغلقت الدنيا في وجهي.

يكمل النادل الكهل “مغلق” حديثه والسلطان محمود يصغي إليه بكل حواسه، فقال النادل: حتى أنني وذات ليلة رأيت في المنام أن الله تعالى قد أعطى كثيرًا من الناس ميزاب ماء ينزل منه الماء بغزارة من فتحته، وأنا مثلهم أعطاني إلا أن ميزابي كان أقل غزارة من غيره لكن ماءً وفيرًا ينزل منه، فظننت أن في فتحة الميزاب ما يعيق نزول الماء بغزارة مثل الآخرين، فأدخلت عصًا لعلها تزيل ما علق في فتحة الميزاب إلا أن العصا كسرت في فتحة الميزاب ولم أستطع إخراجها فأغلقت فتحة الميزاب بالكامل وانقطع الماء الذي كان ينزل فاستيقظت من منامي وأنا حزين أقول لنفسي حتى في المنام يغلق باب رزقك؟

أشفق السلطان محمود لحال النادل مغلق وأمر مساعده أن يأمر طبّاخه بأن يهيئ طبقًا كبيرًا من طعام شهي وأمره أن يضع تحت الطعام نقودًا ذهبية، وأرسل الطبق إليه حتى إذا بدأ يأكل الطعام وجد النقود الذهبية أخذها وأنفق منها على عياله وصلح حاله. استغرب السلطان بعد مدة وقد رجع إلى نفس المقهى وقد غيّر هيئته ليجد النادل يعمل في نفس المقهى وعلامات البؤس ظاهرة في وجهه، وظن السلطان أن النقود الذهبية التي وضعها في الطبق لم تكف لتحسين أحواله، ولما رجع إلى قصره أمر مساعده أن يأمر الطبّاخ بإعداد ديك حبش رومي يشويه ويحشوه بليرات ذهبية وأن يرسله إلى بيت النادل “مغلق”.

بعد مدة رجع السلطان إلى المقهى ليجد النادل يعمل هناك وعلامات الأسى تصرخ في وجوه الحاضرين ومنهم السلطان المتخفي والجالسون يصرخون وينادون: هات قهوه يا عم مغلق، هات شاي يا عم مغلق. اندهش السلطان وأصيب بالذهول مما رأى وسمع، وبدأ يراوده الشك بأن مساعديه لم يوصلوا له طبق الطعام المرصوف بالذهب، ولا ديك الحبش المحشو بليرات الذهب وأنهم قد سرقوها أو أن هناك أمرًا عجبًا يحصل. فاستدعى مساعديه الذين بدأوا يرتجفون خوفًا من هول التهمة، وراحوا يقسمون الأيمان المغلّظة أنهم لم يفعلوها وأنهم أوصلوا الطبق والديك إلى حيث أمرهم.

أمر السلطان باستدعاء النادل إلى قصره وعرّفه على نفسه وحكى له قصته وما فعله من إرسال الذهب إليه، فأين الذهب ولماذا لا يزال يعمل نادلًا.

اندهش النادل مما سمع وقال: والله يا مولاي لم أر ذهبًا ولا فضة ولا غير ذلك، ولكني في المرة الأولى وعندما رأت زوجتي طبق الطعام وكان شهيًا يشد الأنظار إليه، قالت لي: ما رأيك لو نبيعه ولا نأكله في يوم واحد ونشتري بثمنه طعامًا بسيطًا يكفينا لعدة أيام فبعناه، وكذلك فعلت زوجتي لما جاءنا الحبش المشوي فبعناه واشترينا بثمنه طعامًا متواضعًا ملأنا به بطوننا عدة أيام بدل أن نملأها من الديك المشوي يومًا واحدًا. تنهد السلطان وقال موجهًا حديثه للرجل يا عم مغلق، ماذا يفعل محمود إذ لم يُعط المعبود.

لا تصلح هذه القصة لبيان أن الرزق مقسوم وأن الأجل معلوم عند الله تعالى، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأنه {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ*فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ}.

وإنما تصلح هذه القصة لتكون مثالًا على الفشل وعدم التوفيق في الأداء السياسي وغيره لبعض الأشخاص والذين في كل مرة يبنون أهرامات الانجازات على رمال الأمل، بل على وهم وعود الآخرين لهم، وإذا بهم يطوون السنوات، سنة تلو الأخرى وعقدًا يتلوه عقد وهم في فشل مستمر وخيبات لا تتوقف.

منذ أن هندس محمود عباس أبو مازن اتفاقية أوسلو ووقعها هو وياسر عرفات مع القيادة الإسرائيلية برئاسة رابين والقيادة الأمريكية برئاسة كلينتون، وخلال كل تلك السنوات والقيادة الفلسطينية سواء كانت برئاسة ياسر عرفات وبعده محمود عباس، تمنّي شعبنا بأنه بعد رحيل رئيس الوزراء الإسرائيلي وقدوم آخر، وبعد رحيل الرئيس الأمريكي وقدوم آخر، فإن الأمور ستنفرج وإن الظروف ستتغير لصالح الشعب الفلسطيني. رحل بيل كلينتون وجاء جورج بوش الابن ثم رحل، وجاء باراك أوباما ثم رحل، وجاء ترامب ثم رحل، وفي كل مرة يتجرع شعبنا كأس الخيبة حيث يظهر الواحد من هؤلاء أكثر تطرفًا في انحيازه للجانب الإسرائيلي. وقبيل رحيل ترامب وفوز منافسه جو بايدن الرئيس الحالي فقد سمعنا القيادة الفلسطينية ممثلة بمحمود عباس وحاشيته تتحدث عن أن فوز بايدن والحزب الديمقراطي سيكون بداية تغيير في السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية، وها نحن نرى كيف أن فتح قنصلية أمريكية في القدس الشرقية لم ينفذ، وكيف أن إعادة فتح مكاتب التمثيل الفلسطيني في واشنطن لم ينفذ كما وعد بايدن، بل كيف أن السكوت على استمرار الاستيطان وعلى ضمان التفوق العسكري الإسرائيلي وغير ذلك من سياسات أمريكية كانت وما تزال ولم تتغير بتغيير الحزب الحاكم الجمهوري أو الديمقراطي، هذا الرئيس أو ذاك ،وخلال ذلك فإن أبا مازن يظل على لهثه خلف السراب والوهم.

وبموازاة ذلك استمر نفس النهج على بناء الآمال بأن القادم سيكون أفضل مع تغيير رؤساء الوزراء في إسرائيل، فمنذ عام 1993 كان إسحاق رابين ثم رحل، ثم جاء شمعون بيرس ورحل، ثم جاء بعده نتنياهو ورحل، ثم جاء إيهود باراك ثم رحل، ثم جاء شارون ورحل، ثم جاء أولمرت ورحل، ثم رجع نتنياهو إلى الحكم ورحل، ثم جاء نفتالي بينت ورحل، وها هو نتنياهو يستعد للعودة، وخلال ذلك كان وما يزال محمود عباس يمنّي شعبه بإمكانية حدوث تغيير في السياسة الإسرائيلية بينما هو من طرفه غارق في مستنقع التنسيق الأمني وغارق في إحكام قبضته البوليسية على شعبنا تنفيذًا لاتفاقياته مع الجانب الأمريكي والإسرائيلي، وها هو محمود عباس وقد شارف على السادسة والثمانين وهو على غيّه، بل إنه قد هيأ الأسباب لمن يخلفونه وهم أشدّ منه اندلاقًا في مشروع التنسيق الأمني وبيع الأوهام لشعبنا الفلسطيني. وعليه فإذا كان السلطان محمود قد قال للنادل: ماذا يفعل محمود إذا لم يُعط المعبود، فإنني أقول لأبناء شعبنا: وماذا سيفعل محمود إذا لم يُعط بايدن ولن يعطي، وإذا لم يُعط نتنياهو ولن يعط. وليس أن محمود عباس نفسه قد فشل وفشل قبله ياسر عرفات، وإنما فشل معهما كل مشروع أوسلو ومن روّجوا له وزينوه من رجالات أبي مازن في الداخل الفلسطيني، وقد برز من هؤلاء أيمن عودة عرّاب سياسات الجبهة والحزب الشيوعي الإسرائيلي، وأحمد الطيبي من عمل لسنوات مستشارًا لعرفات ولمحمود عباس وما يزال إلى الآن عرّابًا لهذه السياسات. نعم لقد فشل كل هؤلاء ولم يحققوا شيئًا من وجود حكام إسرائيل لهم مع التذكير أن توجيهات صدرت من عرفات ومن محمود عباس إلى هؤلاء، وأن أموالًا ضخّت لصالح تمويل حملات لدعم التصويت لشمعون بيرس ولإيهود باراك بزعم أنهما سيسعيان لحل الدولتين وأنهما أفضل من منافسهما نتنياهو.

ومثل محمود عباس فإنه منصور عباس رئيس حزب القائمة العربية الموحدة والذي جاء بنهج جديد لم يُسمع به ولا بمثله في آبائنا الأولين. إنه الذي ظنّ أن فشل أيمن عودة وأحمد الطيبي كان بسبب تأثيرهما السلبي والصفري من خارج الائتلاف الحكومي فذهب إلى أن التأثير الإيجابي والانجازات الرهيبة وغير المسبوقة ستتحقق عبر المشاركة في دعم ائتلاف حكومي يميني صهيوني عنصري.

لقد ذهب منصور بهذا الاتجاه وانزلق هذا الانزلاق على أمل أن يعطيَه نفتالي بينت، ودفع مقابل ذلك أثمانًا باهظة عبر الاعتراف بيهودية الدولة وعبر إطلاق المصطلحات التوراتية على المسجد الأقصى المبارك وعلى حائط البراق، بل إنه سكت وانخرس أمام موجات تدنيس واقتحام المسجد الأقصى واعتداءات شرطة الحكومة التي يدعمها على الرجال والنساء والأطفال في المسجد الأقصى المبارك.

سقطت حكومة نفتالي بينت الذي قال بعد يوم واحد أن منصور عباس شريك جيد لكن لا يمكن الاعتماد عليه. ولم يجنِ منصور عباس إلا الشوك والفضائح السياسية عبر كشف سياسيين وإعلاميين إسرائيليين لعمق المستنقع والمنزلق والوحل الذي غاص فيه عبر حجم الابتزاز الذي مارسه عليه قادة المشروع الصهيوني أمثال الراف دروكمان وغيره، ما لم يسبق أن وصل إليه أي سياسي فلسطيني طوال تاريخ الصراع مع المشروع الصهيوني اللهم إلا ما وصل إليه محمود عباس قبل منصور عباس.

اللافت والمحيّر أنه ومع سقوط حكومة نفتالي بينت وإذا بمنصور عباس إياه يصرح أنه على استعداد لإعادة الكرّة والتجربة من جديد عبر المشاركة في دعم ائتلاف حكومي يميني برئاسة نتنياهو حتى لو كان أحد مركباته ليس إلا المتطرف الأكثر يمينية وعنصرية، بن غفير وشريكه سموطريتش حيث شعار ومشروع منصور عباس هو الاستمرار بهذا الانزلاق، وإن لم يتم تحقيقه والتقاطه من فتات نفتالي بينت فإنه سيتم على مائدة وما سيقدمه نتنياهو.

إنه الاستمرار ببيع الوهم والسراب في بورصة أكاذيب حكام إسرائيل والذين يتفوق عليهم جميعًا نتنياهو مع قناعتي الخاصة أن هذا ليس غباءً سياسيًا ولا هو جهل في فهم الواقع، وإنما هي أجندات يعمل الرجل على تنفيذها.

هي الأيام وحدها طالت أم قصرت ستري شعبنا وتكشف خبايا هذه التجربة وهذا النهج، وعن سر هذا الانزلاق والسير بالاتجاه المعاكس لكافة مركبات شعبنا وأمتنا في الداخل والخارج وطنيًا وإسلاميًا. وإذا كان السلطان محمود قد قال : ماذا يفعل محمود إن لم يعط المعبود، فأنا أقول لمنصور عباس إذا لم يعطك الله فلن يعطيك عطا الله. “معنى كلمة نتنياهو هو عطاء الله”.

ومثل محمود عباس ومنصور عباس فإنه محمد بن سلمان الذي يبني الآمال العراض على نجاح مشروعه التدميري دينيًا وسياسيًا واجتماعيًا وبإقامه علاقات علنية مع إسرائيل علّها تكون هي الطريق الأسرع لإذابة الجليد في علاقاته مع أمريكا لأن إسرائيل هي الابنة المدللة وبرضاها حتمًا سيكون رضى أمريكا.

ليس أن محمد بن سلمان يريد أن يكسر جمودًا سياسيًا، وإنما هو الذي يُحدث انقلابًا في القضايا الدينية والاجتماعية عبر السماح لوفود يهودية بدخول المدينة المنورة بل ودخول مسجد الرسول ﷺ مع حرمة ذلك لغير المسلمين، وعبر تكليف شخصية جدلية الذي هو محمد عبد الكريم العيسى الذي يحظى بحب وتقدير وعلاقات مميزة مع اليهود والإسرائيليين، لإلقاء خطبة يوم عرفة. هذا الفاسد والمتصهين في خطابه إنما هو الوجه والواجهة الدينية لمشروع التطبيع الذي ينهجه محمد بن سلمان والذي يُكافأ عليه بلحس الرئيس الأمريكي بايدن لكل تهديداته بمحاسبته على قتله وتقطيع جثة المرحوم جمال خاشقجي، وها هو يقوم بزيارة تاريخية إلى السعودية والالتقاء بمحمد بن سلمان.

وإذا كان الرئيس الأمريكي السابق ترامب مطلع العام 2017 وعند توليه الحكم فإنه قد جاء إلى السعودية والتقى بالملك سلمان ومحمد بن سلمان واجتمع بعشرات القادة العرب والمسلمين، وحلب من آل سعود 400 مليار دولار ومن هناك طار إلى إسرائيل، بل لتكون أول محطة في زيارته حائط البراق والصلاة عنده باعتباره حائط مبكى اليهود، في صفعة لكل العرب والمسلمين الذين جلسوا بين يديه قبلها بساعات في الرياض، فها نحن نرى نفس الزيارة من الرئيس بايدن لكن باتجاه معاكس. إنه زار إسرائيل أولًا ومن هناك طار إلى السعودية ليلتقي مع قادة عرب ومسلمين، ومن ضمن وفده شخصية إسرائيلية مرموقة كما ذكرت ذلك وسائل إعلام إسرائيلية قبل أسبوع، في إشارة واضحة لعهد جديد من علاقات علنية مكشوفة بين السعودية وبين إسرائيل حيث يظن ابن سلمان ان بهذا التقارب مع إسرائيل وأمريكا، فإنه مزيد قوة ومزيد حفاظ على عرشه وملكه هو وعائلته.

وإذا قال السلطان محمود للنادل: ماذا يفعل محمود إذا لم يُعط المعبود، فإنني أقول لابن سلمان: وماذا سيفعل لك الإسرائيليون والأمريكان ولو رضوا عنك إذا لم يرض عنك المسلمون أهل السنة والقرآن.

محمد ومنصور ومحمود: وماذا نفعل لكم إذا لم يعط العبد ولم يعط المعبود.

محمد ومنصور ومحمود: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}.

نحن في أوج مرحلة التمحيص والغربلة فيا عباد الله اثبتوا.

نحن في ذروة المخاض ويكون بعده الميلاد. نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا..

رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة

والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى