خبراء يعددون أسباب سيطرة العسكر على الحكم بعد الربيع العربي
تحل في الثالث من تموز/ يوليو الذكرى التاسعة للانقلاب العسكري في مصر، على إثر قيام وزير الدفاع حينذاك، عبد الفتاح السيسي بالإعلان عن تعليق الدستور، وإنهاء حكم محمد مرسي؛ أول رئيس مدني منتخب في دولة يحكمها العسكر منذ 1952.
وفي السودان، لا يزال المجلس العسكري هو الحاكم الفعلي في السودان، رغم التظاهرات الحاشدة ضده في الخرطوم ومدن سودانية أخرى في 30 حزيران/ يونيو. وفي تونس لا يزال الرئيس التونسي قيس سعيد يعطل الدستور ويصر على استفتاء جديد، رغم حالة الرفض العارمة ضد إجراءاته، في ظل صمت قادة الجيش التونسي، يفسره البعض بأنه تأييد لهذه الإجراءات.
وكانت ثورات الربيع العربي التي خرجت للشوارع والميادين عام 2011 طالبت بحكم ديمقراطي وحرية وعدالة اجتماعية، إلا أنه بعد مرور 11 عاما على انطلاق شرارتها، لا يزال العسكر وشركاؤهم هم المسيطرون على الحكم، في دول ثارت شعوبها أملا في حكم مدني ديمقراطي.
علاقة طبيعية
وفي ظل استمرار سيطرة العسكر ورفضهم التنازل عن الحكم أو دعم الأنظمة الديكتاتورية، تبرز أسئلة عن أسباب هذه السيطرة ودور الأحزاب والنخب المدنية فيها.
المفكر التونسي أبو يعرب المرزوقي، قال؛ إن “ظاهرة سيطرة العسكر معقدة، وتحتاج إلى كشف مقوماتها وصلتها الجوهرية بنوعية التغيير في الأنظمة والقيم”.
وأوضح المرزوقي، أنه “لذلك لم تحدث ثورة إلا وحصل فيها سيطرة للعسكر، وهي غير مقتصرة على العرب فقط، ولعل أبرز مثال ما حصل في الثورة الفرنسية التي تم عسكرتها بعد أن بدأت فكرية، وتحولت إلى شعبية ثم سيطرت عليها العسكرة النابليونية”.
ولفت إلى أن “المشكل الأساسي يكمن في علاقة بعدي الدولة، أي علاقة القوة العنيفة فيها بالشرعية التي هي رمز لقوتها اللطيفة، فالقوة العنيفة سواء كانت شرعية تسمى عنفا شرعيا أو غير شرعي، فتكون عنفا خالصا ليس له أساس شرعي غير القدرة على افتكاكه، وهي القضية التي تكمن وراء استحواذ العسكر على السلطة فيسمي الانقلاب ثورة، أو استحواذهم على الحكم بعد الثورة فيسمي الانقلاب تصحيحا للثورة”.
وتابع أن “الحكم في العالم كله يتألف من بعدين؛ أحدهما هو شرعيته والثاني هو شوكته، ومن ثم فلا يمكن تصور دولة خالية من دور الشوكة، وما يطالب به ثوار السودان مثلا دليل جهل بهذا القانون؛ لأن حضور الشوكة في الثورات أمر لا مفر منه، والحد منها رهن تحقق شروط الشرعية المغنية عن بروز دورها”.
هشاشة النخب وصلابة العسكر
من ناحيته قال المهدي مبروك، وزير الثقافة التونسي الأسبق، ومدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تونس؛ إن “حقيقة سيطرة العسكر يمكن أن نشاهدها إما بشكل مباشر أو غير مباشر، حيث تمكن العسكر في جل الثورات العربية من السلطة بشكل أو بآخر، إما بانقلابات تحت مسميات عديدة، أو أحيانا تحت غطاء مدني (مخملي) كما في الحالات المعروفة مثل تونس وغيرها”.
وعبر مبروك عن اعتقاده بـ”أن هذه السيطرة ناجمة عن جملة من العوامل، بعضها تخص المجتمعات وتراثها المحلي والسياسي مثل مكانة المؤسسة العسكرية في مرحلة التحرر الوطني، وأيضا هناك عوامل وقواسم مشتركة بين دول الثورات، التي كانت سيطرة العسكر فيها بدرجات متفاوتة”.
وأوضح مبروك، أن “العامل الأول هو ضعف النخب المدنية وهشاشة تكوينها، حيث كنا نعتقد بأن هذه النخب كجمعيات وشخصيات وأحزاب، التي يمتد تاريخ بعضها لعقود خلت أنها صلبة، ولكن تبين أن بنية المجتمع المدني سواء نخب أو جمعيات أو غيرها، هشة أمام صلابة المؤسسة العسكرية والأمنية وأجهزة الدولة”.
وأضاف: “من ناحية صلابة المؤسسة العسكرية مثلا في الحالة المصرية الجيش ليس فقط قوة عسكرية بل أيضا قوة اقتصادية، فهو يمتلك ويدير تقريبا أكثر من 54 في المائة من الاقتصاد المصري، وكذلك الأمر في الحالة الجزائرية لا يمكن إغفال تراث جيش التحرير وسطوة تراث ثورة التحرر التي قادها العسكر، ومن ثم يتبين لنا أن هذه المؤسسات العسكرية في الدول العربية هي مؤسسات صلبة، مقارنة بهشاشة ورخاوة المجتمع المدني”.
وأما العامل والسبب الثاني وفقا للوزير التونسي الأسبق، “يتمثل في الإخفاق في إدارة المرحلة الانتقالية”، ويعتقد أن ذلك ناتج عن صعوبة بناء توافقات مدنية صلبة، حيث كانت معظم التوافقات إما عسيرة وإما مؤقتة أو أحيانا هشة، بمعنى أن النخب السياسية بأشكالها وأطيافها كافة، لم تستطع بناء توافقات تدير بمقتضاها المرحلة الانتقالية، وتُبعد من خلالها المؤسسة العسكرية.
وأشار إلى أن “الحالة اليمنية والسودانية والليبية مثال على غياب القدرة على إدارة المرحلة الانتقالية، حيث أتيح الانتقال الديمقراطي عبر مراحل انتقالية هشة، بغض النظر إن كان العسكر يتحرشون ويتربصون ويترصدون هذه التجربة أم لا، فإن قدرة النخب السياسية على بناء تحالفات واسعة والاستجابة إلى مطالب الأجيال الثورية تم إما بعسر وإما بضعف، وغياب الإرادة في بناء تحالفات صلبة تستبعد الجيش، من ثم لا يمكن فقط لوم المؤسسة العسكرية بأنها كانت تتربص وتتصيد الفرصة للصعود إلى الحكم”.
ونبه إلى “أن للعامل الإقليمي دورا في سيطرة العسكر، حيث هناك مناخ وقوة إقليمية لا يمكن أن تنظر لهذه التجارب الديمقراطية بعين الرضا والراحة، ومن ثم أثرت بشكل أو بآخر، حيث تدخلت أحيانا بشكل سافر كالحالة الليبية، ولهذا يعتقد أن العامل الإقليمي من خلال الرهان على العسكر، كان مؤثرا بشكل كبير”.
دور الأحزاب
وحول أسباب ضعف وهشاشة النخب السياسية، وإذا ما كان هناك دور للأحزاب في سيطرة العسكر، قال مبروك: “الثورات فاجأت الجميع؛ بمعنى لم يتهيأ أحد لها سواء النخب أو غيرها، ولم يتوقع أحد أن تمر الأنظمة العربية بهذه الثورات، حيث كان البعض يتوقع حدوث بعض القلاقل فقط، ولكن لم يتوقع أحد أن تغير الشعوب جلدها، وأن تتمكن من التحكم في التحولات القادمة”.
وأكد أن “من أهم أسباب ضعف وهشاشة هذه النخب، غياب ثقافة الحوار الوطني سواء قبل أو بعد الثورات، وكذلك غياب سياسة بناء جبهات عريضة؛ فالمعارضة كانت بشكل عام مشتتة حتى بعد الثورات، فلم نجد معارضة تشكل جبهة عريضة وقوية بعد الثورات”.
وأضاف: “أيضا إخفاق النخب وعدم قراءة قدرة الأجهزة الأمنية والعسكرية على المناورة والتخفي، ويمكن تسمية ذلك حسن نية أو غباء النخب أو إخفاق، ومن ثم النخب لم تستطع أن تستشرف المستقبل جيدا، وكان لديها سوء تقدير”.ولفت مبروك إلى أنه “حدث شرخ مجتمعي عمودي بين الإسلاميين والعلمانيين، وهو لم يكن فقط مجرد استقطاب سياسي أو أيديولوجي أحيانا، بل معارك وجودية إما أنا أو أنت، ومن يشارك بمعارك وجودية لا يستطيع الاشتغال على السياسة بمعنى المناورة والتكتيك وغيرها، وممن ث كان هناك أحزاب تفضل التحالف مع العسكر لإقصاء خصومها السياسيين، خاصة أن التحالف مع العسكر يمنحهم القوة لتصفية الخصم السياسي والتخلص منه”.
من ناحيته، أوضح المرزوقي “أن القوى السياسية في المجتمعات الحديثة يمكن تسميتها أحزابا، لكنها في المجتمعات التقليدية قبائل، ويمكن القول إن القوى السياسية العربية الحالية ذات أصناف خمسة، تعود إما إلى عصبية الدم أو إلى عصبية العقيدة”.
وتابع: “فبعض هذه الأحزاب لا زالت قبلية صراحة كاليمن وربما ليبيا، وبعضها مثلها قبلي ولكن بصورة خفية لأنها طائفية مثل لبنان والعراق، وأما البعض الآخر أحزاب على هامش القبيلة لكنها تعمل كقبيلة خاصة، وأخيرا أحزاب على هامش الطائفة لكنها تعمل كطائفة خاصة، ومن ثم يمكن القول؛ إنه لا يكاد يوجد في البلاد العربية قوة سياسية حزبية بالمعنى الحديث للقوة السياسية الحزبية”.
وأضاف: “وبهذا المعنى تعمل هذه الأحزاب والقوى السياسية بآلية الشوكة، شوكة العصبية القبلية أو الطائفية لغياب آلية الشرعية الممثلة للجماعة ككل، ومن ثم فهي انقلابية بالجوهر، سواء كان الانقلاب عنيفا كما يريد حفتر في ليبيا مثلا، أو كما يريد الحوثي أو كما يريد حزب الله أو كما يريد البعث أو كما يريد الناصرية أو كما يريد البورقيبية، إلخ”.
وأشار إلى أن هذه الأحزاب “بعد ذلك تحاول أن تستبد بقوة الدولة العنيفة، ومن ثم فهي كلها مشاريع انقلاب بالقوة على الأقل، وإذا سنحت لها الفرصة فهي تستحوذ على كل مقدرات الدولة، فلا تبقي شيئا من وظائف الدولة لغيرها يكون محايدا في خدمة الجميع”.
دور المؤسسة الدينية
وبالعودة إلى انقلاب السيسي، يجدر الإشارة إلى أن ضمن الحاضرين لمؤتمر السيسي حين عطل الدستور، برز شيخ الأزهر أحمد الطيب وبابا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تواضروس الثاني اللذان باركا الانقلاب، وكان هناك مساهمة واضحة لبعض شيوخ الأزهر في الترويج للانقلاب عبر عدة وسائل إعلامية.
هذه المشاركة الدينية بحضور بيان الانقلاب الأول، تدفع للتساؤل عن دور المؤسسة الدينية في تعزيز حكم العسكر، خاصة بعد ثورات الربيع العربي.
يرى المفكر أبو يعرب المرزوقي “أنه حينما نريد التكلم عن المؤسسة الدينية، فينبغي أن نميز بين شكليها عند المنتسبين إلى الإسلام، فهي مؤسسة فعلية في التشيع وظاهرة من المؤسسة في التسنن”.
وأوضح أن “المؤسسة الدينية في التشيع شرط أساسي يتبعه الحكم مبدئيا، حتى لو انعكس الأمر كما في عهد الشاه حيث أصبح الديني تابعا للسياسي، لكنه عاد إلى أصله بعد عودة الخميني”.
وأشار إلى أن “الإخوان المسلمين حاولوا تقليد الخاصية الشيعية في الحكم، لكنها لا تتماشى مع التسنن، ذلك أن الحكم في السنة ليس تابعا لمؤسسة وسيطة بين المؤمن وربه، ولا لمؤسسة وصية يكون فيها الحكم حاكما بالحق الإلهي”.
وأضاف: “لهذه العلة كان ابن خلدون وقبله الغزالي وبينهما ابن تيمية يعتبرون السلطة السياسة تابعة للجماعة مباشرة وهي اجتهادية، والتشريع الديني أو الشريعة هي النظام القانوني الذي يحدد المعايير، لكن ليس له من يمثله فوق من يختارهم الشعب للحكم سواء بحرية فعلية (الديموقراطية) أو بحرية شكلية (البيعة والشورى)”.
وأكد أن “النتيجة هي أن المؤسسة الدينية لا وجود لها حقا في الإسلام السني؛ لأنها بالأساس مؤسسة علماء دين وليس مؤسسة مرجعيات بالمعنى الشيعي، فليس لها سلطان الوساطة بين المؤمن وربه، ولهذه العلة كان التصوف يحاول القيام بهذه الوظيفة، عندما يكون ذا ميل شيعي باطني، وهو غير الزهد الذي لا يتجاوز مجاهدتي التقوى والاستقامة إلى كذبة مجاهدة الكشف، التي هي جوهر الباطنية والوساطة وهي كنسية متنكرة، أما تصوف الزهد، فهو التصوف المقاوم الذي يؤدي دور حماية الثغور وقيادة الجماهير في الجهاد وليس في الحكم، فالأمير عبد القادر لم يكن متصوفا بالمعنى الباطني”.
وخلص بالقول: “إذن، فالمؤسسة الدينية التي تتدخل في عسكرة الثورة بالمليشيات أو الحشد الشعبي شيعية بالجوهر وليست سنية، وقد فشل الاخوان في محاكاتها، وتلك هي أزمة كل الأحزاب الدينية في الإسلام السني”.
بالمقابل اعتبر وزير الثقافة التونسي الأسبق المهدي مبروك، أن “الدور الديني في شرعنة الانقلاب كان فقط في الحالة المصرية، لكن مثلا في تونس لم نر دورا لوزراء الشؤون الدينية، كذلك لم يتدخل المجلس الأعلى للإفتاء؛ نظرا لحل إدارة جامع الزيتونة، بينما الأزهر في مصر له دور تاريخي، بالمقابل لا يوجد في اليمن أو ليبيا أو تونس مؤسسة دينية كالأزهر”.
وأشار إلى أنه “في الحالة المصرية، نعم الأزهر أعطى نوعا من الشرعية الدينية والقبول الديني لهذا الانقلاب، وللأسف لم نر قامات دينية من الأزهر تناقش أو تحاجج وترفض الانقلاب”.
وحول إذا ما ساهمت شرعنة الأزهر للانقلاب بالتأثير على موقف الشارع المصري قال مبروك: “نعم ساهمت، ولكن لم يكن موقف الأزهر استثناء، بل كان متوقعا؛ نظرا لأن الأزهر دائما كان تحت يد وسلطة من يحكم، ودائما ما كانت السنة السياسية أن الأزهر موال، ومن ثم ربما يمكن اعتبار تأثيره فقط على المؤمنين التقليديين المتعلقة قلوبهم به ودفعهم على القبول بالانقلاب”.