معركة الوعي (121) حصاد الشوك، غياب الوعي وورقة اليانصيب
حامد اغبارية
إن تشخيص المرض هو المدخل الوحيد للعلاج الأكيد. وإلا فإن ما سوى ذلك يبقى في دائرة الفرضيات والتوقعات التي تقود أصحابها غالبا إلى لا شيء، وفي أحيان كثيرة تُبعدهم بُعد المشرقيْن وبُعد المغربيْن عن العلاج، ويبقى المرض ينخر في الجسد والأمل في الشفاء مفقودا، إلا من بعض طقوس (سياسية في حالتنا) هي أقرب إلى الشعوذة تمدّ المريض بأوهام شفاء بعيد المنال.
لذلك علينا أن نعترف أن شريحة كبيرة من مجتمع الداخل الفلسطيني ما تزال تعاني من غياب قهري للوعي، ومن العيش داخل فقاعة “الحلم الإسرائيلي” التي أسهمت في صناعتها تيارات فكرية وأطر سياسية مارست وما تزال طقوس الشعوذة لإيهام (مخزن الأصوات) بأن هناك أملا في الخروج من عنق الزجاجة، وأن هذا الأمل محصور مقصور على الكنيست، وما دون ذلك ضياع وخسران مبين!!!
لقد مرت على مجتمع الداخل الفلسطيني مرحلة سابقة من غياب الوعي والانحدار أصاب شررها أغلب أبنائه، حين كانوا يهرولون بنسب عالية جدا، وصلت في بعض الأوقات إلى 70%، إلى صناديق الاقتراع الإسرائيلية، وحالهم كحال الذي اشترى بطاقة يانصيب وبات الليالي يحلم بالملايين التي ستخرجه من فقره، حتى إذا جاءت ليلة إعلان رقم البطاقة الفائزة بات متوترا متحفزا ينسج الأحلام ويرسم الخطط، وإذا به يسقط على أمّ رأسه من الخيبة، ثم يعيد الكرة مرارا وتكرارا، ليعيش تلك اللحظات “السعيدة” المفروشة بالورود، ثم يستيقظ على فراش من شوك، وبدلا من أن يفيق من غفلته ويشمّر عن ساعديه ويكدّ ويعمل من أجل إنقاذ نفسه لإخراجها من فقرها (المالي والفكري)، ظل قلبه ومستقبله معلّقا ببطاقة اليانصيب.
ثم جاءت مرحلة من تاريخ هذا المجتمع، خاصة بعد هبة القدس والأقصى، استعاد فيها بعض وعيه، وأدرك أنه يلعب في الملعب الخطأ ويراهن على الحصان الخاسر. لكن هذه الصحوة من الغفلة تركت خلفها جيشا من المضلَّلين الذي اختاروا مواصلة اللهاث خلف بطاقة اليانصيب، التي زيّنتها لهم الأحزاب ذات المصلحة والإعلام المضلِّل. ولا تخلو المسألة من ذي مصلحة شخصية أو فئوية، أو من ذوي أجندات غريبة عن فضائنا وعن هوية هذا الفضاء.
لذلك أضحكتني مطالبات تناثرت هنا وهناك في الأيام الأخيرة تطالب بضخ دماء جديدة وتقديم وجود جديدة بدلا من تلك القديمة (الحالية)، وكأن المشكلة تكمن في الوجوه القديمة وأنّ الحلّ في الوجوه الجديدة، وكأن المشكلة ليست في الواجهة، أي في العنوان، أي في تلك المؤسسة المسماة الكنيست الإسرائيلي!!
عفوًا وعذرًا وألف عذر، لكن ما يزال في مجتمعنا أغبياء وحمقى يصدّقون ما يُقال لهم. وهذا مرض لا يخلو منه أي مجتمع من المجتمعات، لكنّه في حالتنا أشد خطرًا وفتكًا.
ثمَّ عفوًا وعذرًا وألف عذر، لكن ما يزال بين ظهرانينا أناسٌ يغطُّون في غيبوبة عميقة. وهذا أيضا مرض لا يخلو منه مجتمع من المجتمعات، لكنه في حالتنا كلّفنا ثمنًا باهظًا يهدد حاضرنا ومستقبلنا وربما وجودنا أيضا.
كانت تجربة العام الأخير، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، كافية أن تضع حدًّا لكل هذا العبث الخطير الذي تمارسه الأحزاب المشارِكة في بطاقة اليانصيب الإسرائيلية، وتحفّز كل ذي بصيرة أن يطرح الأسئلة الحقيقية التي بذلت تلك الأحزاب وتبذل كل جهد ووسيلة كي لا تُسأل: إلى أين نريد أن نصل؟ بل إلى أين يريدون أن يصلوا بنا؟ وهل حقا يمكننا أن نحقق إنجازا – مهما كان متواضعا- من خلال الكنيست الصهيوني؟ وهل هذه الأحزاب موجودة هناك لتمارس لعبة اليانصيب من أجلنا نحنُ أم من أجلها هي؟ ألا يمكننا أن نتوقف قليلا ونفكّر فيما مضى ونقرأ حاضرنا ونستشرف مستقبلنا؟ أليس من الواجب أن نعيد قراءة التجربة ونقيّمها ونعيد ترتيب أوراقنا؟ إن الشعوب الحيّة والقيادات المسؤولة تفعل ذلك في كلّ مرة تجد نفسها في مأزق أو في كلّ مرة تدخل في أزمة. فلماذا لا نفعل نحن ذلك؟
إنّ الذي لا يفعل ذلك لا يصلح أن يكون في القيادة ويقرر للناس مستقبلهم!
نعم، هناك من لا يريد، بل لا يجرؤ على خوض تجربة التوقف ودراسة التجربة بجدّية، لأنه يعلم يقينا أنه إن فعل ذلك سيخسر كل شيء، ذلك أن وجوده ومستقبله مرتبط بحبل السرّة بالكنيست الإسرائيلي، فإذا انقطع الحبل انقطعت به سبل الحياة. هكذا تماما!!
لقد سجّل العام الأخير الذي شاركت فيه القائمة الموحدة في الائتلاف الحكومي أسوأ ما يمكن أن يعيشه مجتمع الداخل الفلسطيني في علاقته من السلطات الإسرائيلية (ناهيك عن كل ما له علاقة بقضية الصراع على فلسطين وقضية المسجد الأقصى المبارك)، ورغم ذلك تجد الموحدة، كما تجد القائمة المشتركة في الوقت ذاته، تسعى إلى مواصلة الدجل السياسي وجرّ الجمهور (مخزن الأصوات) إلى عملية خداع جديدة.
وبدلا من أن تقرر الحركة الجنوبية دراسة تلك التجربة، والإعلان أنها كانت تجربة فاشلة وأنها أخطأت في النهج وفي الطريق، فإن قياداتها انبرت تبرر الفشل وتلقيه على الآخرين، كما فعل رئيسها الشيخ صفوت فريج، مبررًا ما عاشه مجتمع الداخل في عهدهم “الميمون” إنما هو من ترسبات الماضي، وأنه لم يحدث فقط في فترة مشاركتهم في الائتلاف!! وهذا من أغرب ما يمكن أن يسمعه المرء ممن يُفترض أنه العقل المدبّر والبوصلة الموجهة لتيار كمثل ذلك التيار! ومن ثمّ تسمع رئيس الموحدة منصور عباس يواصل الغرق في ذات الوهم مُغرقًا معه مَن منحوه الثقة، وهو يتحدث عن احتمال حصول قائمته على سبعة أعضاء أو عشرة أعضاء ليحقق ما لم يحققه في “أم المعارك” التي انجلى غبارها هذه الأيام.
أما زال هناك من يصدّق ما تُسوّقه الموحدة أو المشتركة أو أحزابها منفردة من أوهام زادت مجتمعنا تفككًا وشقاءً وبُعدًا عن طريق الخلاص؟
قبل أن تنهار حكومة بنيت وترفع الراية البيضاء كانت الموحدة بالنسبة له شريكا ضروريا جيدًا لا بدّ منه، وأنها تجربة ناجحة ويمكن أن تحقق ما لم يتحقق من قبل. حتى إذا انزاحت (صخرة) الموحدة عن صدره قال: يفضل تشكيل حكومة بدون منصور عباس!! وهذه فقط البداية. وغدا سنسمع كلاما أشد قسوة، تماما كما سنسمع أن هؤلاء الذين كانوا بالأمس قد أعلنوها حربا شعواء على نتنياهو وسموطرتش وبن غفير قد أصبحوا شركاء لهم.
فماذا حصدت الموحدة بنهجها سوى الخيبة والشوك والحنظل؟
إنها معارك فارغة، أشبه ما تكون بمعارك دونكيشوت ضد طواحين الهواء. عن تجربة المشتركة ومستقبلها، سيكون لنا حديث في مقال أو مقالات قادمة.