ماريوبول ووصايا “بطرس الأكبر”: روسيا من القوة البرّية إلى القوّة البحرية
لا يمكن شخصين اليوم ألّا يكونا متفقين في أن “روسيا بوتين” تسعى لأن تكون قوة بحرية دولية، فضلاً عن أنها تصنَّف تاريخياً بأنها قوة قارية (برية). ويبدو أن هذا الطرح بدأ بالصعود على سطح الأحداث مع سيطرة القوات الروسية على مدينة ماريوبول، وقبلها السيطرة على الأراضي الرابطة بين هذه المدينة المنكوبة وشبه جزيرة القرم التي اجتاحتها موسكو في سنة 2014.
بين قزوين والبحر الأسود
ويمثل هذا التطور، أي السيطرة على ماريوبول، المدينة الاستراتيجية التي تطل على بحر أزوف، وهو بحر مغلق يوجد شمال البحر الأسود، اختراقاً جيوسياسياً جديداً تشهده أوروبا بعد نهاية الحرب الباردة وبداية عصر “الأحادية القطبية”، خصوصاً أن الاستيلاء على ماريوبول جعل من بحر أزوف بحراً روسياً، بعد أن كان طوال أكثر من 30 عاماً بحراً تسيطر أوكرانيا على مدخله، ولا تمتلك فيه روسيا إلا بضعة كيلومترات، يشقها نهر الرون الذي ينبع من الشمال الروسي.
ولا يعدو أن يكون هذا التطور الجيوسياسي إلا بداية نزوع روسي نحو تجذير فكرة الامتداد الأوراسي أو “الإشعاع الأوراسي” التي تعتبر النظرية التي تسطّر استراتيجية موسكو وتحدد سياستها الخارجية، كذلك فإنها تحدد سلوكها السياسي منذ العشرية الأخيرة من القرن العشرين، خصوصاً عشية الحرب الشيشانية الثانية (1999-2000) التي عادت بموجبها جمهورية الشيشان إلى فلك روسيا الفيدرالية.
ولعلّ أهم سؤال يمكن أن يطرح في هذا السياق: كيف أثر استيلاء ماريوبول بالوضعية الجيوسياسية للبحر الأسود والمنطقة الأوراسية ككل؟
ان الإجابة الصريحة عن هذا السؤال تكمن في أنه يمكن روسيا أن تمدّ قوتها البحرية بين مساحتين بحريتين كبيرتين، هما البحر الأسود (عبر بحر أزوف) وبحر قزوين، وذلك إذا ما توجهت لحفر قناة تربط نهر الفولغا الذي يصب في بحر قزوين بنهر الدون الذي يصب في بحر أزوف، وهذا ما يعني أن روسيا ستتمكن من أن يكون لها ممر مائي استراتيجي يتيح لها ربطاً مباشراً بين سواحلها على بحر قزوين في الداخل الآسيوي وضفاف البحر الأسود المطل مباشرة على الساحل الأوروبي.
بين “الهارت لاند” و”القوة البحرية”
إن هذا الاختراق الجيوسياسي سيمكن روسيا من تطوير قدراتها البحرية المباشرة، سواء العسكرية أو الاقتصادية، إذ إن حفر مثل هذه القناة سيمكن روسيا من أن تكون القوة البحرية الأكبر في منطقة استراتيجية شديدة الأهمية بالنسبة إلى أوروبا، ومن ورائها الولايات المتحدة، وهي آسيا الوسطى أو “الهارت لاند” (قلب الأرض) بالنسبة إلى المنظر الجيوسياسي البريطاني هالفورد ماكندر (1861-1947)، تلك المنطقة التي يشكل فيها القوقاز (أرض ما بين البحر الأسود وبحر قزوين) أبرز مكون لها، بل تمثل بالنسبة إلى ماكندر أحد أطراف قلب العالم، الذي يحددها في مقال له تحت عنوان “محور الارتكاز الجغرافي في تعاليم التاريخ” بأنها توجد في قلب “القارة الأوراسية”، وهي التي تشمل الأراضي الروسية الحالية.
ماكندر الذي يعتبر من أبرز المنظرين الجيوسياسيين الكلاسيكيين الذين أثروا في الاستراتيجية الأميركية ما بعد الحرب العالمية الثانية، يشير في نظريته إلى أن من يسيطر على قلب العالم سيسيطر على كل العالم، وهو بالتالي اعتبر أن روسيا تمثل قوة قارية وبرية يجب محاولة تقليص قوتها من طريق الاحتواء وعدم جعلها تسيطر على “الهلال الداخلي” لأوراسيا الذي يمتد من أوروبا إلى الخليج العربي والهند، وامتداداً إلى الصين وجنوب شرق آسيا.
وبالرغم من أن ماكندر تأثر بقوة الأرض في تحديد الاستراتيجية السياسية للقوى العالمية، إلا أن منظراً آخر رأى أن القوة البحرية هي التي ستشكل الفارق بين القوى الدولية ودرجة سيطرتها على العالم، وهو ألفريد ماهان (1840-1914).
ماهان، وهو ضابط سابق في البحرية الأميركية ومنظّر جيوسياسي، يشير في نظريته حول هيمنة القوة البحرية في السياسة الدولية، التي نشرها ضمن كتابه “تأثير قوة البحر على التاريخ”، إلى أن هناك شروطاً لتكوين قوة بحرية، من بينها ميزة التموضع الجغرافي، والشواطئ المناسبة للموانئ وموارد كبيرة ومناخ مناسب، وكذلك مساحة كبيرة من الأرض وكتلة سكانية تسمح بالدفاع، ومجتمع مولع بالبحر والتجارة، وحكومة راغبة في الهيمنة على البحار.
وصايا بطرس الأكبر
كل هذه الشروط قد تكون مما دفع روسيا في مغامراتها خارج “أراضيها التاريخية الباردة”، فتموضعت في سورية ورسمت لنفسها مكاناً في البحر المتوسط وعلى سواحل البحر الأحمر، وكذلك في شبه جزيرة القرم على البحر الأسود، وهو ما يؤشر على استراتيجيتها الباحثة عن موطئ قدم في المياه الدافئة، إضافة إلى التوجه الروسي نحو تكوين قوة تجارية من خلال تجارة المحروقات وتصديرها إلى كل أنحاء العالم لتكون جزءاً من الاستراتيجية المستقبلية لموسكو، وأخيراً أصبحت تطمح إلى ربط قوتها القارية الموجودة في قلب آسيا الوسطى بالبحر الأسود وبقية العالم عبر البحر المتوسط.
إن “روسيا بوتين” أضحت تبحث اليوم عن تطبيق وصايا إمبراطورها “بطرس الأكبر”، الذي احتفل بوتين بذكرى مولده يوم الجمعة الماضي، والذي كان أول إمبراطور خلق من روسيا قوة عسكرية برية، وطمح إلى أن تكون بلاده قوة بحرية.
ومن بين وصايا بطرس الأكبر ما يأتي: إخضاع مناطق القوقاز والقرم والبلطيق وأوكرانيا، وضرورة ديمومة التهديد الروسي لفنلندا والسويد، وأهمية لعب روسيا على استثارة النزاعات والخلافات بين القوى الأوروبية.
ويمكن من هذا التلخيص لوصايا بطرس الأكبر استنتاج أن بوتين يحاول أن يخرج من احتواء الغرب لبلاده في “فضاء قلب العالم” البارد حسب ما يطرحه ماكندر، لتحويل روسيا إلى قوة بحرية حسب ما يطرحه ماهان، وبالتالي أن تصبح روسيا، قوة قارية وبحرية، وهو ما يشكل خطراً على الاستراتيجية الأميركية والغربية التي يمثلها حلف الشمال الأطلسي، الذي من جهته يسعى اليوم للجم القوة الصينية الصاعدة ضمن حدودها القارية.. وتلك قصة أخرى.