احتياطي الذهب في لبنان.. الملاذ الآمن أم الثروة المجمدة في زمن الانهيار؟
يتخبط لبنان في تداعيات أزمة اقتصادية اشتعلت شرارتها منذ منتصف 2019، ومن أبرز عناوينها الإفلاس وانحلال الجهاز المصرفي والقطاع العام، والتفريط في أموال المودعين، وانهيار الليرة، وما تبع ذلك كله من فقر مدقع لم يعرفه اللبنانيون منذ نشأة بلدهم.
وينتقل لبنان بعد الانتخابات البرلمانية إلى مرحلة ضبابية ومعقدة في إدارة الحكم، في وقت يملك فيه ثروة من احتياطي الذهب هي جزء من أصول الدولة، يخزن بعضها في مصرف لبنان المركزي، ويودع أغلبها في الولايات المتحدة الأميركية.
ومع اشتداد الخناق اقتصاديا وماليا، يطرح أطراف الأزمة، من متسببين ومتضررين، هذا المعدن الأصفر كإشكالية بين من يدعو إلى ضرورة استخدامه، وآخرين يحذرون من المسّ به باعتباره من أثمن ما يملكه لبنان رسميا.
وتناقش الجزيرة نت مسألة احتياطي الذهب بين سبل الاستفادة والمخاطر مع كل من: وزير المالية الأسبق والباحث المستشار لدى مؤسسات دولية مالية ومصرفية جورج قرم، والباحثة القانونية المتخصصة بالشأن المصرفي سابين الكيك، والباحثة والصحفية الاقتصادية فيفيان عقيقي.
ما قصة احتياطي الذهب؟
يحتل لبنان المرتبة الـ20 عالميا في احتياطي الذهب، وفق تصنيف مجلس الذهب العالمي، ويتصدر المرتبة الثانية عربيا بعد السعودية (لديها 323.1 طنا)، إذ يملك 286.8 طنا، أي نحو 10 ملايين أونصة تناهز قيمتها 17 مليار دولار.
ويستذكر جورج قرم قصة امتلاك لبنان لهذا الاحتياطي بعد الاستقلال من الانتداب الفرنسي، إذ بدأ منذ العام 1948 باقتناء أول كمية من الذهب على إثر انضمامه إلى صندوق النقد الدولي في العام 1946 بعد الاعتراف بالليرة اللبنانية عملة مستقلة.
وفي ذلك الحين، وفق قرم، ارتبط شراء الذهب بتثبيت سعر صرف الدولار وحفظ قيمته، واستمر حتى أوائل السبعينيات إثر فكّ الولايات المتحدة الأميركية ارتباط تغطية الدولار وطباعته بالذهب، وهو قرار معروف بـ”صدمة نيكسون” (نسبة للرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون)، والذي فرض الدولار بديلا احتياطيا عن الذهب لحفظ قيمة كل العملات الأخرى حول العالم، ومنذ العام 1971 توقف لبنان عن شراء الذهب إثر القرار الأميركي ببلوغ قيمة مدخراته 286.8 طنا.
وهنا تشير فيفيان عقيقي إلى أن الحكومات اللبنانية المتعاقبة ما بين الاستقلال وأوائل السبعينيات استمرت في شراء الذهب لتغذية احتياطي مصرف لبنان المركزي، وذلك من فائض الموازنة والضرائب التي تأخذها من المواطنين.
وتصف عقيقي ما قام به اللبنانيون بالتضحية الكبيرة لشراء الذهب وخدمة السياسات المالية مقابل عدم حصولهم على أدنى حقوقهم الأساسية، “مما يجعل هذه الأصول المعدنية حقا مكتسبا لجميع اللبنانيين”.
وفي العام 1986، صدر القانون اللبناني رقم 42، وينص على الآتي: “بصورة استثنائية وخلافا لأي نص، يمنع منعا مطلقا التصرف بالموجودات الذهبية لدى مصرف لبنان أو لحسابه مهما كانت طبيعة هذا التصرف وماهيته سواء أكان بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلا بنص تشريعي يصدر عن مجلس النواب”. وتذكر سابين الكيك أن أي إجراء أو خطوة لاستعمال الذهب يشترط موافقة البرلمان والتصويت عليه، وتوضح فيفيان عقيقي أن القانون صدر حماية للذهب ومنع السيطرة عليه من قبل المليشيات اللبنانية خلال الحرب.
وفي العام 1996، أقرت الحكومة اللبنانية اتفاقية عقود إصدار سندات الدين بالعملات الأجنبية (اليوروبوندز)، وتنص بأحد شروطها على أن على الدولة اللبنانية الخضوع لقوانين محاكم نيويورك لحل النزاع بينها وبين الدائنين، ويقتضي تخلي الدولة عن سيادتها على موجوداتها الخارجية، إذا تخلفت عن سداد ديونها بالعملات الأجنبية. وقالت عقيقي إن الذهب أهم هذه الموجودات الخارجية، مما يعني أن الدولة بحكم المتخلية عن أصولها الخارجية بعد التخلف لأول مرة عن سداد مستحقات اليوروبوندز في مارس/آذار 2020 بعهد حكومة حسان دياب.
وتذكر سابين الكيك أن الدين العام تجاوز 90 مليار دولار، بعضها يُستحق دفعه بالليرة اللبنانية. في حين أن سندات اليوروبوندز وحدها تبلغ نحو 39 مليار دولار، وآخر سند يستحق دفعه مع فوائده عام 2037، وهو ما يتعثر لبنان عن سداده بفعل أزمته، مع بلوغ العجز بالجهاز المصرفي -المعترف به رسميا- نحو 70 مليار دولار.
هل يمكن للبنان الاستفادة من احتياطي الذهب لحل أزمته؟
بينما يغرق لبنان حاليا في تقلبات حادة في سعر صرف الدولار (بين ما هو أقل وأكثر من 30 ألف ليرة)، وما يرشح عنها من انهيارات بمختلف القطاعات، وقع لبنان اتفاقا على مستوى الموظفين فقط مع صندوق النقد الدولي لوضعه على سكة الإنقاذ.
وإذا استكملت المفاوضات وتكللت بالنجاح، رغم تشكيك خبراء في ذلك، فإن التقديرات ترجح إمكانية حصول لبنان على نحو 4 مليارات دولار (أي ربع قيمة احتياطي الذهب) مقابل تنفيذ شروط صارمة أبرزها: تحرير وتوحيد سعر صرف الدولار، والاعتراف بالخسائر المالية وإعادة هيكلة النظام المصرفي والقطاع العام، وتوزيع الخسائر بعدالة بين الأطراف المعنية، وضبط العجز والتقشف في الموازنة العامة، وتوفير شبكات حماية اجتماعية.
وفي الآونة الأخيرة، تعالت الأصوات المطالبة بضرورة التعامل مع احتياطي المركزي، والذهب ضمنا، كآخر ذخيزة متبقية، في حين يجد آخرون ألا جدوى من تمويل دولة تشكو من الهدر والإفلاس والفساد بلا خطة إصلاح شاملة.
وهنا، يحذر جورج قرم من مخاطر استخدام الذهب نظرا لرمزيته لبنانيا وعالميا وفي ظل عدم الثقة في القائمين على السلطات التشريعية والتنفيذية والنقدية، وقال إن الذهب هو نقطة القوة الوحيدة التي يملكها لبنان في أزمته، وأي عملية لرهنه أو بيعه تعني انهيارا شاملا.
ويعتقد أن أي إنقاذ “يجب أن يبدأ بلجنة تحقيق تدقق في حسابات المركزي وكل موجوداته، وعبر تغيير حاكمه رياض سلامة، الذي يستمر في وظيفته منذ 30 عاما”. ويعتبر الوزير الأسبق أن اللجوء إلى الذهب هروب ممنهج من لبّ أزمة النظام النقدي “غير العقلاني”.
ولفت إلى أن “المركزي كرّس على مدار عقود سعر صرف ثابتا (1507 ليرات مقابل الدولار) أدى إلى كارثة مالية ونقدية عبر الانتحار النقدي البطيء، في حين كان العالم يعتمد أنظمة سعر صرف عائمة، وهو ما يبرر فرادة النموذج اللبناني بأزمته المالية”.
كيف يمكن استخدام الذهب؟
وتوازيا، تطرح فيفيان عقيقي تساؤلات عن أماكن تخزين ذهب لبنان، وتخشى رهنه وحجزه إلى حين سداد سندات اليوروبندز كاملة، في وقت يمكن فيه النهوض بلبنان عبر تسييل جزء منه في مشاريع استثمارية منتجة.
وترى أن تأييد التصرف بالذهب في الأزمة يرافقه حذر شديد بكيفية تفسير ذلك من قبل النخبة الحاكمة، وقالت إن الذهب عبارة عن أصول مادية قيمة، و”وضعها بلا تصرف لا معنى له، علما أن عدم التصرف فيها سابقا كان له معنى لحمايتها، وتاليا أي مساس بالذهب يرتبط بما سنستعمله”.
وتعتبر عقيقي أن استخدام الذهب “يجب أن يكون لتمويل قطاعات إنتاجية زراعية وصناعية وبنى تحتية، لا لتثبيت سعر الصرف أو تعويض الدائنين والمصارف، ويجب أن يكون في خدمة كل الأجيال الحالية والآتية، وبناء على رؤية وتصور للدولة، لا للتفريط به كما فرطوا بأموال المودعين”.
وتدعو عقيقي للتفكير بكيفية رسملة مصرف لبنان، لأن السياسات النقدية التي يقوم بها هي أداة أساسية في توجيه الاقتصاد، في حين أن “ممارساته باللعب بالفائدة وطبع العملة لم تكن لخدمة المجتمع اللبناني، بل لخدمة أرباب المصارف ومراكمة أرباحها”.
من جانبها، تذكر سابين الكيك أن التصرف بالذهب لا يتعلق بإرادة لبنان واللبنانيين وحدهم، بل هو رهن قرار مشترك مع جهات خارجية، وفي طليعتها واشنطن وصندوق النقد الدولي والدول القادرة على شرائه وتحمل عمليات نقله، مذكرة أن عددا من الدول مثل ألمانيا واجهت مصاعب كبيرة لاسترجاع ذهبها المحفوظ في أميركا.
وقالت إن نقل الذهب يستوجب إجراءات معقدة مرتبطة بالأطراف المعنية به وليس بالدولة التي تملكه فحسب، وأن خيار رهنه أهون من خيار بيعه، لأنه يكون بمثابة كفالة لا تتطلب نقله.
وترى أن إثارة ملف الذهب تشغل الرأي العام اللبناني بما هو غير منطقي للتحقق بالمدى المنظور، وأن مشكلة لبنان هي فقدان الثقة في نظامه المالي، والحل في تشغيل العجلة الاقتصادية وهيكلة القطاع المصرفي وإعادة إنعاشه واسترجاع أموال المودعين. إذ “لا معنى لأي حل إنقاذي لا يبدأ بإصلاح المصارف وتوظيفها خدمة للاقتصاد والمجتمع”.